الفاتح من شهر شباط، ايام الصقيع على وشك الإنقضاء، ولا تزال الشمس في كبد السماء تكابد لتدفئة قرية "إغران" لم يكن أحد من الخلائق على هذه الارض يعلم حال نفسه ومآلها بعد ساعة او ساعتين، حتى الارض كل الارض لم تكن تعلم، لكن الإنسان بطبيعته أحيانا يمتلك حدسا يفوق كل التوقعات، ثم إنه في النهاية لا يؤمن به ولا يعلم.
قبل شهر من اليوم، تحديدا في بداية شهر كانون الثاني، قرية "إغران" تشكو الجفاف وقلة المطر، وضعف الحيلة، فالأرض هنا ملأى بالأبار المعطلة حيث يتم الاستعانة بها لتخزين مردود الماء من المطر، وكذلك الحال لوالد الطفل "ريان"، حفر بئرا قبل عشرين عاما فظل فارغا طوال عقدين من الزمن. فعادة ما يمر به سكان القرية وحتى الطفل ريان يدرك خطورة هذا البئر الغريق، الا انه اعتاد ان يمر بجواره يوما بعد يوم، بين الفينة والأخرى وراء الأغنام التي كان يسرحها مع والده . لهذا اعتادت قدماه ان تطأ الارض دون ان تخطئ وان كان الأمر على حافة البئر، والده يزيح الغطاء عن الجب الفارغ طمعا في امتلائه بماء المطر، وريان يحب ان يروي عطش الأغنام نهاية كل يوم بمساعدة والده.
الوقت يمضي مسرعا، وقد توسطت الشمس عرض السماء، الشاهدة على يوم استثنائي، يشعر فيه الغلام بجوع شديد يدفعه للإفطار مرتين هذا الصباح، مرة مع والده، ومرة أخرى مع أمه.
ريان: ألم تتناول فطورك قبل قليل مع والدك ؟ هكذا هتفت أمه مخاطبة اياه باستغراب!
بلى يا امي، لكني اريد ان افطر مجدد !
أحيانا يكون للإنسان نصيب عظيم في إحساس يعتريه لبرهة من الزمن، احساس يختلج الوجدان في اقل من فعل او ردة فعل ولا نأبه لهذا الكنه أبدا، لانها مجرد لقطة من لقطات العمر لا تحتاج بالنسبة لنا ان نعيرها ذاك الاهتمام، لأننا بالأخير لا نطلع على الغيب ولن يحدث هذا ابدا الا بعد ان يصدق القدر، عندها نسترجع الشريط، وندقق في التفاصيل.
صدقا ! لقد كتب للغلام ان يفطر مرتين..
بالنسبة للأب، فالبئر لا مشكلة ان تبقى مفتوحة بين الفينة والأخرى طالما الجميع يعلم مكانها وخطورتها، بالنسبة لريان، لا بد أن تكون البئر مفتوحة هذا اليوم، لأنه على موعد مع القدر.
وبالنسبة لي، فالبئر لم تحفر قبل عشرين عاما الا لأجل ريان .
آذان العصر يسمع صداه بين المساكن والبيوت، والمآذن تدعوا للصلاة والفلاح، يغيب الأب عن الأنظار ليلبي دعاء الصلاة بينما يختفي ريان عن سطح الأرض، وكأن الأرض ابتلعته على حين غرة، عاد الاب وهو يعدو عدو الظليم في نكبته بعد ان سمع خبر الإختفاء الذي شاع في القرية كمثل النار في الهشيم، والخبر دوى في قلب الأم كصعقة البرق او كرصاصة الغدر لا فرق، والغلام بلا اثر ولا خبر، انتظروا عودته الى البيت لكنه لم يعد فاضطروا البحث في كل مكان، لقد بحثوا في كل مكان الا المكان الذي سقط فيه ريان . لن أبرح الارض ولن اعود للبيت دون ابني "ريان"، هكذا حال الأبوين من بعده بساعات، ألم الفراق ومرارته جعل الأم تدخل في دوامة الحنق والخنق، لكأنما تحمل نكبات الدهر وارزائه فوق رأسها، غصة وشجن لا يعلم بهما الا الله، سيجن جنونها ولن تعود للبيت أبدا من دونه، من ذا الذي ذاق مرارة فراق الابناء للحظة؟ ليلة كغير الليالي الحالكات المظلمات، وجع يقسو بالفؤاد ويجعل المرء يستطير جنونا، ويذهب به مذاهب الإختلال، أولم تبيض عينا يعقوب النبي على فراق يوسفه ؟
لعله سقط في البئر المعطلة، هكذا قال قائل منهم، فحضروا الجب جميعا بعد حين، على امل ان يكون بباطن الارض بعد ان فقدوا الامل في سطحها.
سبحان الذي جعل الظلمة سكنا ووحشا، وجعل الضياء نورا نهتدي به.
وإنهم لكذلك، والله وحده أعلم كيف ومتى زل الغلام قبل ان يستقر في جوف الارض على بعد 32 مترا وهو عمق منتصف البئر من اصل 60 مترا. ان تهوي في هوة عمقها اقل من عشرة امتار كفيل بأن يجعلك مصابا بكسور بليغة، فما ادهاك ببئر ضيق عميق وسحيق، جوانبه كافية للإلتحام بجلدك ووجهك طيلة السقوط، لا بد وانه كان ألما قاسيا على الحقيقة!
صرت الان اتخيل هذه الحفرة التي استقر فيها بعد الارتطام، وما يسوره فيها بسور يشهد اثقل العبرات التي تسيل على خده الجريح، مستقر ضيق، شديد الظلمة والسواد، الثقب في الاعلى بعيد كل البعد ليخترقه النور، بعيد كل البعد للنجاة، بعيد كنقطة حرف النون . جوانبه من تراب هش ممزوج بالحصى، تكشأت جوانبه وتآكلت، درجة الرطوبة فيه كفيلة بأن تخترق العظام وتشعرك برجاج يسري في العروق مجرى الدم وينتزع منك دفء الراحة والاستقرار، خاصة واننا لازلنا في فصل الشتاء والصرصر، والمناخ هنا لا يرحم ابدا، ها هو ذا تحسس المكان بعد انتهاء الصدمة الاولى، وعلم انه فعلا قد هوى، تحسس الجدار فلمس التربة من حوله، لا شيء يرى، انه يرى فلا يرى شيئا، ولا شيء يسمع، الحاستين الوحيدتين اللتين تعطيان صورة اقرب للمكان، هي شم رائحة جوف الارض وما كانت تحويه من ماء زنق متكدر الذي جف بالسنين، ولمس الجوانب المحيطة بالتراب، شيء اخر غير هذا؟ لا شيء، الا ما يكابده من ألم وجروح جراء السقطة والصدمة، فالنفس الادمية خلقها الله ضعيفة، وخلق معها اسلحة للنجاة وللدفاع عن النفس وذلك باستخدام اذكى وسائل الجسد، فالعقل وسيلة عظيمة لنجاة الكثير بواسطة خطط كثيرة وغير متوقعة، لكن ليست كظرف "ريان" فظرفه مختلف تماما.
مضت الان قرابة عشر ساعات، ولازال الغلام المسكين يكابد قسوة الخوف والجوع، ويعالج ألم الحيرة في قرارة نفسه وخوفه من المجهول، قسوة المكان وعمق المكان، جوف الارض وجوف الليل، عقارب الساعة على الحائط في الغرفة داخل مسكنه البسيط تشير للثانية والنصف بعد منتصف الليل، وهنا يدرك الاب ان فلذة كبده داخل حفرة حفرها بنفسه قبل سنين.
يتبع...
بقلم: يونس الدهمي
إقرأ الجزء الثاني من القصة... 👈 هنا
إقرأ الجزء الثالث من القصة... 👈 هنا
إقرأ الجزء الرابع من القصة... 👈 هنا
كتبت أحداث القصة انطلاقاً من تصاريح أبويه وتماشياً مع عنصر الرواية.. نسأل الله تعالى أن يتغمده برحمته.