الليلة الأولى
لقد أثقل الأمر كثيرا على أبويه، بل
صادف في قلبهما ما يصادفه الثاكل المفجوع ليلة العزاء، فطفقا يكذبان ما تراه
أعينهما وما تصغي إليه مسامعهما، وصارا يمنيان نفسيهما أن الأمر لا يعدو أن يكون
كابوسا سينتهي أثره بعد حين، وسيستيقظا من حلمهما ليجدا الطفل مضطجعا على سريره
بعد هذا الكابوس المؤلم، وما فتئت الأم تصارع ويلات المشهد وصدمات الواقع وهي تجثو
فوق البئر جثو الضارع في المعبد، وترفع يداها للسماء باكية متألمة، وتصرخ بما
أوتيت من قوة بصوت هدار يتلف طبول الآذان الصاغية من أماكنها، ويشق القلوب
ويصدعها، ويفزع الماكثين في المخادع، والنائمين في المضاجع، فيرتفع الصوت الى
علياء السماء، عند رب الأرض والسماء. وهنا، يطرق الأب برأسه أمام الملأ مخافة ان
تكون " أم ريان " قد أصيبت بعارض من عوارض الجنون، فصمد هنيهة ولا يدري
ماذا يفعل، أيبكي حاله وحال إبنه الذي ضاع منه ولا يعلم أحد إن كان ما يزال حيا،
أم يواسي زوجته التي لم يعد بينها وبين الخبل والجنون إلا ما تيسر من رحمة الله .
فقام فأقعدها غير بعيدة عن الحفرة التي تضم ابنها، وقد غطت جبينه غمامة من الحزن
لا يعلم بها الا الله.
ولم ينشبا على تلك الحال الا قليلا،
حتى سمعا بخبر استبدل حزنهما بفرحة شديدة، وكأن الله استجاب لدعاء هذه المرأة
الضعيفة التي تبكي ولدها وتتضرع أن يبقيه سالما معافا . وكذلك كان، فالغلام لازالت
روحه الطاهرة تنبض بين أحشائه، لا زالت الروح والجسد معا في جوف الأرض، ألم أقل لك
يا أم ريان ان تصبري وتتمسكي ؟ ها هو ذا ابننا لا زال حيا، وحكاية موته إفك يفترى
؟! هكذا قال الأب وقد تجلت على وجهه روح البشارة، ولم يعد شطاطه فتيا كما كان، لم
يعد متضعضعا لا يقوى الوقوف ولم يجد للخروج من مكيدته من سبيل.
فأما الغلام فلم يسمع ولم يرى شيئا من
هذا كله، لكنه سمعهم ينادون عليه باسمه من فوهة الجب في مكان سحيق، وعلم أنه هو
الاخر تحت رحمة الله، وهو الأن يضمر من الشيء الكثير ما يضمره أبواه في السطح
والناس أجمعين، لقد سبق عليه القول ولم تنفصل روحه الطيبة عن جسده بعد لحكمة لا
يعلمها الا الله، ضيق الهوة وعمقها كفيل بفصل الروح عن الجسد، لكنه الآن حي وكل
أمله ورجائه في منقذ ينقذه ويعيده الى أبويه سالما.
فالروح لا تستسيغ ألم الجسد، بل تنفر
من سقمه وعليله لإيقاف الألم، كذلك الحال بالنسبة لريان، بالرغم من قوة الاصطدام
الذي لم يكن جسده الصغير يتحمله، الا انه بادر بشيء من القوة لنفسه، فقد استجمع
شتات ذهنه وقواه بعدما أبل قليلا، لكنه لا يزال ذاهلا مذهوبا به، شاردا كمن سقط في
مكان لم ير مثله أبدا، يسمع فلا يكاد يفهم الحديث، يرى ولا يكاد يستوعب ماذا يرى،
ولم ينشب على تلك الحال حتى بدأ يسمع شيئا يحتك بجوانب الجب من الأعلى والصوت
يقترب اليه شيئا فشيئا، فاستطير فرحا شديدا وأدرك أنهم قد عثروا عليه وقد اقترب
موعد خروجه من الحفرة، سمع اسمه لكأنما المنقذ كان يحدثه من جوف بئر اخر لعدم وضوح
الصوت واختناقه . وما هي الا لحظات حتى غاب الصوت وتوقفت الحركة وتلاشى امل
الإنقاذ واختفى المنقذ . وهنا بدأ شيء يسري بداخله، تحطمت آماله والحزن يدب في
قلبه دبيبا.
مضت ساعات طويلة كانت فيها خمس محاولات
تتكرر بنفس الشكل، الا واحدة كان الصوت فيها قريبا جدا بينما لم تكن للغلام طاقة
كافية للتحرك لحظتئذ... وساعتئذ انتهت كل المحاولات.
الليلة الثانية
وهنا خشيت أن يكون الصبي قد نفض يده من
هذه الحياة الى الأبد، فقد ظل فاقدا للوعي ما شاء الله أن يفعل، وها قد مضت أزيد
من عشرون ساعة يستفيق فيها تارة ويطرق برأسه أخرى، يحرك يداه في الظلام فلا يجد
حبلا يتشبث به ليخرجه من حفرته، ولا منقذا يحمله فوق رأسه، وكلما سارع ليتحرك عجز
عن ذلك، فقد صار منهكا فتيا مسلوب القوى، ضعيف الحركات والسكنات، حتى ذلك البريق
من الأمل الذي كان يظهر بين الفينة والاخرى قد اختفى تماما، فخيل له أن الجميع قد
خلد لمضجعه بينما هو الوحيد الذي يصارع الموت لوحده . لكنه في الحقيقة لم يرى كم
كان بانتظاره خارج الحفرة بل والأنكى من ذلك وأكثر . في الواقع تلك البارقة من
الأمل التي كانت تظهر إليه حينا بعد حين، كانت كل ما يملك للاستمرار على قيد
الحياة ويقاوم بما يملك ليصلوا اليه، لكنه للأسف فقدها في هذه اللحظة، ولم يعد
يستطيع التحمل أكثر، ولا البقاء أكثر، فالتعب والانتظار قد كشفا له عن سوء
معاملتهما.
وانه لكذلك، فقد سئم من لسعات البرد داخل جوف الأرض ولم تترك له بدا من غمضة عين، كابد من الجوع الذي يمزق الأحشاء ما كابد، وهو العالق الذي طالت ساعات انتظاره فلم يصل اليه أحد، يصارع الإختناق في كل مرة، ويندب الحظ السيء في كل خطرة، ويراهن على روحه ألف كرة وكرة. وهو المحق فيما يقاسيه من أرزاء وويلات لا يلعم بها الا الله.
وما أصبح الصباح، حتى انتشرت صوره بين الناس وقد سكن قلوبهم، وصدع أفئدتهم، وصاروا يتناقلون صوره واسمه، ويبدون تعاطفهم مع حادثته ويعلنون تضامنهم المطلق لأجل ان يتم إنقاذه واخراجه، فمنهم من بكى لحاله ومنهم من استبعد خروجه حيا، ومنهم من وصفه ب "ابن الجب ومعجزة العصر" فكسب محبة الناس أجمعين.
الليلة الثالثة
سارعت فرق الإنقاذ بعدما تدخلت سلطة
الدولة في عمليات الحفر بوسائل تقنية ضخمة وجرافات وكاميرات لمراقبة حالة
"ريان" داخل الحفرة، ودعمه بأنابيب الأكسجين، الا أن الكاميرا رصدت
مقطعا له وقد أغمي عليه، او بالأحرى، ريان لم يعد يتحرك!
يتبع...
بقلم: يونس الدهمي
إقرأ الجزء الثالث من القصة... 👈 هنا
إقرأ الجزء الرابع من القصة... 👈 هنا
اقرأ الجزء الأول من القصة... 👈
هنا
كتبت أحداث القصة انطلاقاً من تصاريح
أبويه وتماشياً مع عنصر الرواية.. نسأل الله تعالى أن يتغمده برحمته.