-->

قصة ريان: الوداع الأخير ③

شاء الله أن يتأخر كل شيء لسبيل حكمة لا يعلمها الا هو، وقد خيل للصبي المسكين قبل لحظات، انه وإن لم يحن إخراجه على بعد الشقة بينه وبين النجاة، الا انه لايزال يتمسك بالأمل، رغم بنات القلوب التي اجتمعت عليه وحالت بينه وبين الصمود، بوارق أمل أخرى تختلج سمعه في هذه اللحظة، أليات الحفر تحفر الأرض ويهتز لها المكان، أصوات البشر لا تسمع أبدا، فهو أبعد من أن يسمعها لكأنما بينه وبينها برزخ عظيم، لكن اهتزاز الأرض لشدة الحفر لابد أن يسمع، ولا بد أن يحدث أثرا على قلبه الصغير باقتراب نهاية هذه المحنة .

رأيتك يا بني متخشبا فجزعت، رأيتك ساكنا عليلا تعالج كل الأسقام وكل المحن لوحدك، أراك مشدوها كتمثال طفل منحوت وقد تجلت على وجهك البريء أثر دمعة رقراقة سالت أرسلتها على خدك، وبالكاد تصعد أنفاسك بشدة، ومن ذا الذي يسمع الان زفراتك ونواحك ؟ من ذا الذي يرى دمعة ارسلت بحرقة في ظلمة من ظلمات الأرض ؟! فما أسمج صورة الحياة وما أقبحها من بعدك ! وما أسمج البيت بيتك وما أظلمه بعد فراقك ! وقد خيل إلي وانا أراك الساعة أن وجه أمك لن يبل بدموع الأحزان، ولن يملأ أحد ذلك الفراغ الذي خلفته في مهجعك ومضجعك، فقد كنت تطلع في أرجائه كل صباح، شمسا مشرقة تضيئ كل شيء فيه، حتى كلبك الوفي الذي اعتاد ان يصاحبك في إقبالك وإدبارك، سيشعر بهذا الفراغ الذي خلفته، سيبحث عنك في كل مكان، سيتحسس ريحك الطيب الى أن يفقد الامل في إيجادك . ومن قال ان الرحمة لا يعرفها الحيوان فقد أخطأ . ولسوف يطول على أهلك الليل حتى يملونه، وما أحسب ان أحدا لن ينفطر قلبه لفراقك، فليت الليل باق حتى نرى وجه النهار ، بل ليت النهار يأتي فقد مللنا هذا الظلام.

في هذه الليلة بالذات والله وحده من لديه علم الأحياء والأموات، سكنت روح الغلام وقضت الى بارئها، فلعل الجسد أصبح ساكنا متخشبا ولم يعد يتحرك منذ ساعات، وهذا ما إلتقطته الكاميرا في الهزيع الأخير من ليلة الخميس صبيحة يوم الجمعة، والله أعلى وأعلم متى قضت الروح بالذات، وبصعود الروح وانفصالها عن الجسد وخروجها من عمق الأرض، كتب للجسد أن يبقى مدفونا تحت التراب لساعات قبل أن يخرج منه ليعود إليه تارة أخرى. سنخرج بحضراتكم من عمق الجب الى خارجه، وسنصعد بكم الى الأعلى خروجا من فوهته الضيقة لنتنفس قليلا ... ليلتها كانت جموع من الناس خارج هذا الظلام تدعوا الله وتتضرع له بأن يعيد إليهم " ريان " سالما غانما لا يشكو شيئا، الناس هنا تتجه أعينهم صوب آلات الحفر وفرق الإنقاذ، أعينهم شاخصة الى مكان الحفر، اهازيج ودعاء يصعد في السماء ولولا مشيئة الله التي سبقت كل شيء لانفطر الجبل قسمين متأثرا بأعظم الدعاء . فقد بكى الباكون والباكيات عليه ما شاءوا، وتفجعوا ما تفجعوا وانتحبوا ما انتحبوا، وهم لا يعلمون مشيئة الله التي سبقت كل شيء . هنا يقف الجموع منتظرين لحظة اخراجه لحظة بلحظة، بل والناس في بيوتهم يرتقبون عبر البثوث المباشرة ويدعون الله مخلصين له على أمل أن يخرج، والجموع هنا حضرت من أماكن مختلفة رغم بعد الشقة، وقد خيم بعضهم ها هنا في العراء ليشهد عملية الحفر شبرا بشبر، لحظة بلحظة، حتى إذا استنفذوا وضعفت قواهم على تحمل صقيع البرد وطول الإنتظار، خلدوا الى مساكنهم والى مضاجعهم في تعب شديد، فكيف لصبي مسكين ان يصبر على ما لم يصبر عليه الناس وهم خارج الحفرة ؟...

الليلة الرابعة

الان يا بني أدركت أننا نفضنا أيدينا على قبرك، ومن الجموع من عاد الى بيته كما يعود القائد المنكسر من ساحة الحرب، ولا يملك الا دمعة يستطيع ارسالها، او زفرة يستطيع تصعيدها، ومنهم من يتابع البث لحظات الإنقاذ لساعات طوال، حتى إذا غلبه النوم تزوره كوابيس الحفر والظلام في أحلامه، وصوت آلات الحفر لا تزال مشتغلة على مسامعه، الى ان يصبح الصباح، فيجد ان عملية الإنقاذ لاتزال مستمرة، ثم يقول في نفسه: وا أسفاه على من تحمل كل هذا العناء داخل ظلمات حفرة في باطن الأرض، وانا الذي نمت طوال هذه الساعات على سريري الدافئ لا أشكو جوعا ولا عطشا، لا بردا ولا كسورا، لا خوفا ولا محن ! فكيف للغلام أن ظل صامدا أمام كل هذه المحن ؟ وكيف لهؤلاء جميعا الذين واكبوا عمليات الحفر ان يصبروا ؟ فوارحمتاه لهم، انهم يستغيثون ويستصرخون وأعوزتهم الوسائل وسدت في وجوههم كل السبل، لله ذركم وعليه أجركم بإذن الله . فلا أحسب أن قلبا لم تلمسه الرحمة بسبب الفاجعة، بل بفواجع الدهر وأطواره .

الليلة الخامسة

مضت الان أزيد من تسعون ساعة واصل فيها فريق الإنقاذ عملية حفر أفقية بعدما استعانت البلاد بخبراء ومهندسين وطبوغرافيين حتى يحولو بين أي انهيار وانجراف للتربة حفاظا على سلامتهم وسلامة الطفل الذي لايزال يعتقد الكثير انه لازال حيا، ولم تظهر اي صورة له على كاميرا المراقبة خلال الساعات الأخيرة من الحفر، لقد أكدوا أن الطفل لم يعد يتحرك او أنه أغمي عليه، وهذه اخر اقوالهم عن صحته، وبديهي ان لا يعلنوا اي خبر مفاجئ خصوصا في هذه المرحلة المتقدمة التي وصلوا اليها من الحفر حتى وان علموا بوفاته . انهم على دراية تامة كيف ستنقلب الأوضاع عند اعلان وفاته، وأن الأمر لا يغدو ان يصبح تمردا حتى وان كان الأمر مشيئة الله، فالإنسان بطبعه يحب الدنيا ولا يستسيغ الموت، يلوم الآخر حتى وان ضحى هذا الآخر بحياته في سبيل إبقاء حياة الآخرين . ومع ان عملية الحفر الآلي تحولت الى حفر يدوي تفاديا لأي انهيار، فقد تلت العملية انهيارات رملية لتربة هشة ما جعل عملية الإنقاذ تزداد بطئا .

لم يكن الأب يستطيع أن يحمل بين جانحتيه لطفله الصغير عواطف أمه، فهي التي كانت تحوطه بعنايتها ورعايتها، وتبسط عليه جناح رأفتها ورحمتها ، وتسكب قلبها الى قلبه حتى يستحيلا الى قلب واحد، يخفق خفوقا واحدا، وينبض نبضا واحدا، وهي التي تسهر عليه ليلا وتكلؤه نهارا ، وتتحمل جميع ويلات الحياة وأرزائها في سبيله، ولو شئت لقلت أن سر الحياة وينبوعها وروحها الأعظم ينحصر في قلب الأم، فما أعظم هذه النعمة ! وقد لا يستطيع الرجل ان يكون رجلا حتى يجد بجانبه زوجة تبعث في نفسه روح الشجاعة والهمة، وهذا ما حدث مع أبوي " ريان "، لقد أسرا في قرارة نفسيهما ألم فقدان إبنهما، وهو يصارع الموت أمام أعينهما وقد أظهرا صبرا عظيما وإيمانا كبيرا يحسب لهما، تراهما واقفين مع بعضهما البعض وهما في أشد الظروف مرارة، وأقسى المكائد حرقة . وهما الآن يرتقبان انتشاله امام الحفرة حيث فريق الإنقاذ وفريق الأطباء ينتظرون، وقد تم استدعاؤهما لمعاينة استخراج فلذة كبدهما في أكبر عملية قيصرية يشهدها التاريخ لاستئصال الطفل من رحم الجبل، ولم يبق من عمر هذا الاستئصال غير دقائق قليلة ويتغير لحظتها كل شيء.

يتبع...

بقلم: يونس الدهمي

إقرأ الجزء الرابع من القصة... 👈 هنا

إقرأ الجزء الثاني من القصة... 👈 هنا

اقرأ الجزء الأول من القصة... 👈 هنا

كتبت أحداث القصة انطلاقاً من تصاريح أبويه وتماشياً مع عنصر الرواية.. نسأل الله تعالى أن يتغمده برحمته.

إرسال تعليق

شاركنا رأيك في الموضوع

أحدث أقدم