لم يخنع أحد من رجال الإنقاذ لعظم الكلل والكدح الذي عاينوه طوال خمسة أيام، وقد أوشكت جفونهم الذابلة أن تكشف عن عظام وجوههم من فرط النصب، ولا يخفى الأثر عن ثيابهم وأجسامهم لكأنما خرجوا جميعا من قلب التل الذي حفروه.
هنا كان الحشد العظيم من الناس يحضر الليلة، خاشعة أبصارهم، متسمرة أجسادهم کرماة السهام، لا ينزحون من مواقفهم خشية أن يفقدوا الرمق الأخير ولحظة إخراج "ريان"، وكانوا جميعا على موعد معه، ولئن اختلف نسبهم وحسبهم فقد جمع بينهم المكان والحدث.
ساعتئذ كان "العم علي" يستطلع المنافذ، ويصارع الشدائد، ويكتم المصائب، ولا يبلغ الناس الا بالخير، وهو الفؤول الذي استبشر به الناس ولمسوا في وجهه فالا حسنا لنجاة ابنهم من هذه النازلة. ولم يقعد ساعة الا ولام نفسه، وأنكر فعله، وقد بلغ منه التعب ما بلغ، وما أحسب أن يهنأ له بال حتى يقضي الله بينه وبين هذا التل الذي آلمه النقب والحفر لكنه أبى أن يسلم الطفل لأهله.
وبعد... ليس في هذه الحياة ما يروق أبوي الغلام، فإنهما لايزالا حتى الساعة يعيشان في قفرة موحشة، لا يؤنسهما فيها مؤنس، ولا يطيقا رؤية المشاهد ولا ما يختلج الناس من نواجد، بل كان كل همهما رؤية ابنهما حيا ينبع من الثرى كما ينبع الماء الريان من جوف الأرض الظمأى، وعيناهما ترأرأت بالحدق الى الجموع لعل أحدهم يصرخ صرخة النجاة من الهلاك، أو قفزة الفرح بعد الانتشال.
وما هي إلا لحظات حتى دلف المسعفون وفريق من الأطباء أرض الحفر، وولجوا الكهف حيث يستقر الغلام، وأظنهم عثروا عليه بعد ساعات من التنقيب الأفقي داخل حفرة على شكل فجوة مقعرة مظلمة، تحوطها أتربة هشة غير متماسكة بفعل الرطوبة العالية في باطن الأرض . وقد نزل الفريق في صمت مفزع لا يعلم أثره في قلب الأم الا الله، وهو الصمت الذي تليه الصدمات والكدمات، ولا يحبذه أحد من الناس لأن عوارضه أشد ألما من الكلام، لكن قلب الأم لازال متمسكا بكثير من الأمل، وقد شدد الله أزرها بزوج يعينها على الويلات، ويمسك يدها عند الشدائد، ويواسيها عند المصائب، وهذا هو الزوج المثالي الذي يجب أن يكون، فقلب المرأة أو الأم ليس كقلب الأب أو الرجل، كلاهما يتصدع ويتألم حزنا وألما، لكن درجة الصدوع تتفاوت، وقلب الأم في النهاية هو مسكن الرحمة والحنان.
لقد منح الله لأبويه رشدا ورصانة عظيمين، ومنحمهما قوة وصبرا لا مثيل لهما، فقد صمدا طويلا وتحملا مرارة الحزن لأيام، وشقاوة ويأس الانتظار لساعات طويلة دونما إحباط، بل تصدوا له بعظيم الأناة، وها هو ذا مقامهما قد علا شأنه بين الناس وارتفع بين الملأ، وقد اتصل بهما الملك لتعزيز صبرهما وتحملهما. وما لبثا طويلا وهما يستأنسان بحديث الملك حتى مضى المسعفون أمام أنظارهما كما يعبر السحاب الهادي بين الماء والسماء. ثلة قليلة من كان يعلم ما يدور هنالك وما دار داخل الكهف المظلم، الا أن الناس حولوا ذلك الصمت الى فوضى، وطفقوا يكبرون ويصرخون، يضحكون ويهللون، وعلى وجوههم سمة الانتصار، وبشارة الحياة من بعد ما كانت الوجوه تلحفها أثر الشقاء والمحن، ذلكم ان الفرح يزيل كل هموم الدنيا وان علت كالجبال، ويمحو لوعة الغمة التي تعبث بالنفوس وتضلها عن لذة الحياة. وعلى الطرف الآخر يهلل الناس ويستطيرون فرحا وسرورا لحدث لا يمكن تصدقيه، وأخذوا يرفعون "عمي علي" كما يلاعب الطفل دميته، وأشرقت الوجوه كلها في كل مكان، وفرحت الأمة وزالت الغمة.
لقد كانت لحظة الفرح هذه أشبه باللحظات التي تفرح فيها الأمم جميعا لشيء واحد، لا يختلف قدره وحجمه، الفرح الذي ينسي المرء هموم الشقاء، البهجة التي تغمر النفساء بعد غراحة المخاض، اللحظة التي انتظرها الجميع في كثير من أصقاع الأرض، وهنا مضت سيارة الاسعاف وهي تحمل نفسا طيبة ألقى الله محبتها في قلوب كثير من الناس، وقد تعقبتها الأبصار، ثلة لا تعلم شيئا، وثلة أخرى ثقفت الأثر... ونالت الخبر من جباه المسعفين ومن ملامح الأطباء، فأشاعوا بينهم خبرا کالفتنة، لقد مات الغلام ... کلا لم يمت إنما إشاعة موته يراد بها كسب الكثير من الالتفات... والحقيقة أن الغلام قد قضى نحبه قبل انتشال جثمانه... فشاع خبر موته بين جميع الناس.
سلام على روحك الطاهرة التي حملت على جسدها من المكائد والأرزاء ما حملت، وكتمت بين جوانحها من الشقاء وغصة المنية ما عالجت وكتمت، وسلام عليك يا بني من أبويك الباكيان وهما يضمران في قلبيهما أشد لحظات التعاسة وأقوى الألم عند الفراق. ثم سارت السيارة وقد أوشك الربع الأول من الليل أن ينقضي والأم تصارع حرقة الفراق وخطواتها غير مستقرة، بل أخذت تثقف أثر السيارة لكأنما تدعوهم للتوقف، ويداها تتعكز على معصم الزوج الذي انقضى صبره، وضعف تحمله، وانزوی شطاطه، ولا يعلم للخروج من سبيل، فالدنيا أظلمت في وجهه، وما على الأرض لوعة أشد من لوعته، ولا شقاءا أعظم من شقائه. وكيف للأبوين أن يصبرا على فراق ابنهما وصغيرهما؟ وكيف ستصبح وحشة البيت وظلمة الأركان من دونه ؟ وما أحسب أن الكرى سيغشاهما داخل بيت أحزانهما الا ان يربط الله على قلبيهما صبرا عظيما.
لقد كانت ليلة من الليالي الحالكات والأشد حزنا على قلوب ملايين الناس، لقد آويت إلى مضجعي فنبا بي، ووددت أن أستزير الغمض فامتنع علي، كأنما فقدت أحدا من أهلي أو أصحابي، ولم يسبق لي أن حزنت لموت أحد لا أعرف فيه غير اسمه، لكن فراق "ريان" ترك فراغا عميقا لا يملأه أحد، ولن يشفي غليله أحد، وكان أكبر ما يشغلني وينفر النوم عن عيني، حالة أبويه من بعده، وهما الأقرب إليه منا جميعا ، فقد هيجت صوره بذهني وحركاته الضعيفة وهو يصارع الظلمة والموت داخل الحفرة وضيقها ألما دفينا وشجنا کامنا، فاستحال النوم وطال السهر .
وما أصبح الصباح حتى عقد الناس العزم لزيارة أهله وقد تشابه عليهم الليل والنهار، وبيت عزاء المنكوبين لا يخلو من البكاء والأنين، لا تجف فيه الدموع ولا يتوقف فيه الأنين، وما بكاء الأم الا كبكاء الرضيع، وما نحيبها الا كالسقيم في ليلته، فلا تكاد تتوقف عن البكاء حتى تعود إليه مرة أخرى، وهي تتفقد الأركان داخل البيت حيث كان يحب "ريان" أن يقعد، وهي تراه في كل مكان، روحه لا تزال هنا، ثيابه لا تزال دافئة كما لو أنه لم يخلعها الا بالأمس، مهجعه وملبسه، مأكله ومشربه، كل شيء هنا يذكرها به، حتی کلبه الأسود الذي اعتاد "ريان" أن يعتني به ظل حزينا طوال اليوم، وقد اضطربت حركاته هو الاخر كأنه يعبر عن حزنه وألمه، يحرك ذيله وهو الحزن في لغته والبكاء في اصطلاحه.
بقلم: يونس الدهمي
إقرأ الجزء الثالث من القصة... 👈 هنا
إقرأ الجزء الثاني من القصة... 👈 هنا
اقرأ الجزء الأول من القصة... 👈 هنا
كتبت أحداث القصة انطلاقاً من تصاريح أبويه وتماشياً مع عنصر الرواية.. نسأل الله تعالى أن يتغمده برحمته.