النظرية البيولوجية:
يرى أصحاب هذه النظرية أن التكوين البيولوجي للفرد بمثابة المحدد الرئيسي للانحراف، حيث يرون أن هناك خصائص جسمية وسمات شخصية وجينات وراثية معينة تميز المنحرفين وتجعلهم يختلفون في أشكالهم و طريقة تفكيرهم عن الأفراد الطبيعيين، فهم في رأي هذه النظرية يتميزون بقامة قصيرة وجباه ضيقة وآذان كبيرة وأيادي طويلة وشعر كثيف في أجسامهم، كما يعتقد هؤلاء أن أجسام المنحرفين بذلك الشكل تعود إلى مرحلة تاريخية قديمة تشبه الإنسان الحفري القديم، وتعتبر مدرسة لومبروزو من أهم الإطارات الفكرية التي ركزت هذا الاتجاه، وقد نادت هذه المدرسة إلى الربط بين بعض المميزات الجسمية أو الخلقية وخاصة في الوجه والجمجمة وبين أنواع من النقص العقلي أو الاضطرابات الخلقية وأشكال الانحراف، وترتكز نظرية لومبروزو على محور الحتمية البيولوجية بشكل واضح و لأجل ذلك تعارضت تفسيراته تلك مع التفسير الكلاسيكي القائم على حرية الإرادة، ومذهب المنفعة وهو بهذا بجبر على الانحراف ولكن بدرجات متفاوتة، انطلاقا من أن المجرم – أو الحدث المنحرف - بالتكوين هو إنسان يعاني من انحطاطية وراثية تجعله غالبا مصابا بعيوب مرفولوجية جسدية ظاهرة، أو باضطرابات وظيفة في أجهزته الداخلية، وخلل في بعض إفرازات الغدد الصماء والدرقية على وجه الخصوص.
لكن قدمت أدلة لهدم النظرية البيولوجية حيث وجد أن تلك الصفات التي وسم بها المجرمون توجد بين طلاب الجامعة و رجال الجيش، فهي صفات لا تعني المجرمين أو المنحرفين فحسب، كما يلاحظ فشل المحاولات التي استهدفت إيجاد علاقة سببية بين اختلال توازن الغدد الصماء و النزعة الانحرافية، إذ توجد مظاهر متشابهة في الدماغ و في الغدد الصماء بين المجرمين وبين الأسوياء وبذلك فقدت هذه النظرية قيمتها كنظرية علمية قادرة على تفسير أسباب الانحراف، رغم أنها خدمت و لفترة طويلة النظام الرأسمالي، حيث جندها لتفسير الفروق الاقتصادية والاجتماعية بين مختلف الطبقات معتبرة إياها مجرد فروق في إمكانياتهم الفطرية استعدادات.(د/محمد شحاتة ربيع وآخرون: علم النفس الجنائي، دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع، مصر، 1994 ،(86-84)).
كما أن مجرد الحكم على الأفراد انطلاقا من اعتبارات وراثية وجسمية هو في حد ذاته خاطئ لأنه ينفي تواجد حرية الاختيار لدى من له تلك السمات الموصوفة فكأنه سجين تلك الإعتبارات أو بعضها على الأقل، مما يفتح المجال لظهور تفسيرات أخرى للسلوك الانحرافي تعارض النهج البيولوجي، ومن بينها التفسير السيكولوجي والذي سيأتي الحديث عنه فيما يلي.
النظرية النفسية (السيكولوجية):
يقوم هذا الاتجاه أساسا على رد السلوك المنحرف إلى أسباب تتعلق بالتكوين النفسي للفرد، أي على البعد الذاتي مرکزة جهودها على فهم شخصيته و القوي الفاعلة فيها، والإنسان المنحرف حسب هذا الإتجاه هو إنسان مريض نفسيا، فهو يتصف بالعنف و الشدة والاندفاع الراجع لتجارب ومواقف نفسية مر بها الفرد في مرحلة طفولته أو بقايا عقدة أوديب أو عقدة إلكتار، وتعرضه لمواقف جنسية مؤلمة في مرحلة الصغر وهذا يشكل الأساس النظري لإحدى أقوى النظريات النفسية وهي نظرية فرويد: وهي من أوسع الاتجاهات النفسية انتشارا، وأشدها وقعا في ميدان التحليل النفسي، وترجع السلوك المنحرف إلى الصراع القائم بين مكونات الشخصية والمتمثل في ألهو أو الذات والأنا، والذات الأعلى أو الأنا الأعلى، هذا الصراع الذي ينتهي بخضوع الذات، والذات العليا لرغبات ألهو، ورجع السلوك المنحرف إما إلى عجز الأنا في تكييف الميول الفطرية مع متطلباته أو كبتها وإخمادها في اللاشعور، وإما إلى انعدام وجود الأنا الأعلى أو عجزها عن أداء وظائفها.
فعلماء التحليل النفسي ينظرون إلى مشكلة انحراف الأحداث من جوانبها الفردية غالبا، فهم يخضعونها إلى الاتجاه التحليلي العام فمثلا يرى إسكورث أن الهرب عند الجانحين يعتبر حالة هروبية من العقاب، كما يقرر بأن سوء تكوين الذات العليا۔ وهي بمثابة الضمير الجمعي عند فروید. عند الفرد تعتبر سببا من أسباب الانحراف بينما كبت فريد لأندر يرجع الانحراف عند الأحداث إلى اضطراب تكوين الأنا عند الحدث، وبالنسبة لفرويد فإن الإنسان المنحرف هو إنسان لم يستطع أن ينمي قدرة كافية من الضمير في شخصيته بحيث لا يستطيع السيطرة على نزعاته الغريزية، لذلك يضع وتلامذته أهمية كبيرة على مرحلة الطفولة وعلاقة الآباء بالأبناء فيها، فالشدة الزائدة أو التساهل الزائد أو الإهمال كلها تؤثر سلبا على شخصية الفرد، فالطفل يمتص كل ما لدى الوالدين من قيم واتجاهات وأساليب سلوكية، و يتبعها و يكون سلوكه المنحرف تحقيقا لقيم منحرفة يقرها الوسط المنحرف الذي ترعرع فيه، لذا فنشأة الطفل نفسيا ورعايته في المرحلة الأولى من حياته لها أثر بالغ في تاريخه السلوكي فيما بعد، فإذا لم يؤدها الوالدان تلك المسؤولية أو من يقوم محلهما على أسس سليمة من الصحة النفسية، فإنها ستؤدي به إلى خطر الانحراف مستقبلا، فالمعاملة القاسية التي يتلقاها الحدث وخاصة من والديه تولد لديه الرغبة في الانتقام والتشفي، كما أن التساهل الزائد معه يولد لديه شخصية ضعيفة غير قادرة على مواجهة الأمور حتى البسيطة منها، وهي أمور وإن دلت على شيء إنما تدل على أهمية مرحلة الطفولة وخطورتها في الوقت ذاته، انطلاقا من أنها الأساس الذي ستنبني عليه شخصية الفرد فيما بعد، وبمقدار ما تمر بسلام وبتوافق وصحة نفسية بقدر ما ينمو الحدث نموا سليما وتتكون شخصية مستقبلية سليمة.
وبصفة عامة يمكن القول بأن النظريات النفسية- خاصة نظرية التحليل النفسي- قد أقامت للفكر مجالا خصبا لدارسة خبرات الطفولة المبكرة وأثرها في السلوك اللاحق، فساعدت بذلك على معرفة دوافع السلوك المنحرف مما سمح بوضع خطط وأساليب علاجية قائمة على أساس التوجيه وقد أدى ذلك منطقيا إلى الاهتمام بدارسة السلوك المنحرف لدى الطفل بالتركيز على الخصائص النفسية له، هذا التركيز في حد ذاته يعد واحد من الانتقادات التي قدمت إلى النظريات النفسية، إضافة إلى انتقادات أخرى قدمت لها وللنظرية البيولوجية على حد سواء وأهمها: أن الاختبارات الجسمية و النفسية ليست دقيقة و صحيحة دائما، فقد تقود إلى اعتبار أو تصنيف بعض الأفراد كمنحرفين وهم ليسوا كذلك بالفعل، فهي بمثابة إصدار الأحكام مسبقة على الأفراد.
1. أنها تفترض وجود علاقة أكيدة بين الخصائص الجسمية أو النفسية والانحراف وهذا شيء غير مؤكد فعلا، بل هو مجرد افتراض.
2. هناك دراسة أجريت على مجموعة من الشباب للكشف عن سمات الانحراف لديهم وأظهرت النتائج أن 60 % من عينة الدارسة لديهم سمات الانحراف، وقد حاول العلماء متابعة هؤلاء الأفراد لمدة عشرين عاما لمعرفة مدى انحرافهم في المستقبل، فوجدوا أن 20 % فقط منهم انحرفوا بالفعل، أما الباقي فلم ينحرفوا مما يعني أنه من الخطأ إصدار أحكام مسبقة على الأفراد انطلاقا من أشكالهم الخارجية لأنها كثيرا ما لا تعكس ما بداخلهم. (هاني محمد توفيق. الأحداث بين الفراغ والجريمة: الأسباب و العلاج. مجلة الشرطي. العدد السابع. السنة الحادية عشر. نوفمبر 1998. ص، 27).
النظرية الاجتماعية:
هي اتجاه نظري يتخذ منحى آخر في تفسيره للسلوك الانحرافي، حيث يجعل الانحراف موضوعا و ظاهرة اجتماعية من ظواهر المجتمع الإنساني و هو ما جعل دوركايم يصفها بالظاهرة الطبيعية و الاعتيادية لكونها تمس كل المجتمعات و في كل الأزمنة، و هي تخضع في شكلها وأبعادها لقوانين حركة المجتمع، فهي لا تركز اهتمامها على الحدث المنحرف بقدر تركيزها على مجمل السلوك المنحرف الذي يصدر عنه - أو عن المجرم على حد السواء- وتذهب معظم النظريات الاجتماعية إلى أن الانحراف أمر يتعدى النشاط الفردي بدوافعه السوية منها والمرضية، ولا يمكن فهمه إلا من خلال دارسة بنية المجتمع ومؤسساته مع عدم إنكار أنه بالإمكان أن يكون للعوامل الذاتية لدى المنحرف دورها، ومع هذا يبقى تحديد الانحراف في الأصل أمرة اجتماعيا، مما يجعل علم الاجتماع يحتل مكانة رئيسية في ذلك و لا يمكن بدون مساهمته فهم هذه الظاهرة فهما شاملا ومقبولا، كون دراساته كانت تهدف إلى الكشف عن القوانين التي تحكم العلاقة بين الجريمة وعناصر البيئة الاجتماعية كالظروف الاقتصادية والسياسية والإيكولوجية والتركيب الطبقي للمجتمع والتعليم والثقافة ووسائل الإعلام والدين والأسرة والهجرة... إلخ.
نظرية العوامل المتلازمة:
وتسمى أيضا نظرية العوامل السائدة، وهي من النظريات الاجتماعية الهامة في تفسير الانحراف اجتماعيا، وهي أولى المحاولات في هذا المجال، وقد انتشرت هذه الطريقة بشكل واسع في الدراسات والأبحاث الاجتماعية التي اهتمت بدراسة ظاهرة الانحراف بصفة عامة، وقد اعتبرت العوامل المؤدية للانحراف عوامل ملازمة له، وأن هذا التلازم إنما هو دليل على العلاقة السببية، ويتم وضع تلك العوامل في قائمة وهناك من حاول إدخال بعض التمايز في طريقة تدخل العوامل الاجتماعية المؤدية للانحراف، كما فعل شومبار ديلو والذي صنف عوامل المحيط المؤدية للانحراف إلى عوامل أولية وأخرى ثانوية، و تنبع العوامل الأولية من المحيط ذاته مثل: العوامل الاقتصادية من أزمات اقتصادية وازدياد أفراد الأسرة مع دخل ثابت... الخ، وكذا العوامل البيئية الحيوية والتي قسمها بدورها إلى قسمين هما: المحيط المادي البيولوجي، ويتضمن: المناخ الجغرافي ورداءة السكن... إلخ والمحيط الحيوي الاجتماعي والذي يتضمن: كثافة المساكن، التجمعات البشرية والانفصال بين الطبقات، هذا عن العوامل الأولية للمحيط، أما العوامل الثانوية فهي عبارة عن حاجات ولدتها العوامل الأولية، ويعتبر الباحث أن أيا من هذه العوامل سواء أخذ بمفرده أم في تفاعله مع غيره إنما يؤدي إلى الانحراف.
ويبدو من خلال هذه النظرية أنها لا تدخل المنطلق الفردي في تفسيرها للانحراف، بل تقتصر على المنطلقات الاجتماعية، وهذا يعد جانبا من القصور لأن الانحراف لا يفسر من تلك المنطلقات فقط، كما يعاب على هذه النظرية أنها متحاملة على الفقراء، حيث تقوم بعزل الطبقات الاجتماعية الأكثر حرمانا وبؤسا في المجتمع لتستنتج في الأخير الأشكال على مستوى المجتمع الكلي - لا الفردي، إضافة إلى عدم إمكانية التعميم فهذه العوامل قد تؤثر على مجموعة من الأفراد في ظروف معينة و لكنها قد لا تؤثر على مجموعة أخرى وفي نفس الظروف، فالإطار الاجتماعي السائد له أهمية بالغة، حيث يفقد العامل دلالته إذا لم يوضع ضمن وضعية اجتماعية معينة، منها كان منشأه وفيها يمكن تطبيقه، مما يجعل من الصعوبة بمكان الأخذ بتلك النظرية وتطبيقها بحذافيرها في المجتمعات المحلية، وإنما يجب الاستفادة من بعض ما جاءت به من أساليب وطرق منهجية في البحث.
نظرية الإحباط:
افترض دولارد و زملاؤه أن الانحراف - الجريمة بصورة عامة - نتاج لعدم تحقق الأهداف أي الإحباط، هذا الأخير الذي يمكن للمرء عندما يتعرض له أن يتقبل الموقف ويتكيف معه فهو يتعلم ومنذ وقت مبكر خلال التنشئة الاجتماعية أن يكبح جماح استجابته المنحرفة الواضحة، على أن ذلك لا يعني أن هذه الاستجابات قد تم التخلص منها. وإن تم تأخير حدوثها۔ أي أن انحرافها عن هدفها المباشر لا يعني إلغاءها تماما. و يشير دولارد وزملاؤه أن درجة الحفز للسلوك المنحرف أي شدة الدافع المنحرف تتباين بشكل مباشر مع درجة عدم تلبية الأهداف المسطرة وكلما زادت أهمية الهدف الذي أحبط كلما زادت درجة إعاقة تحققه، و كلما كان عدد الاستجابات المعاقة كبيرة كلما زادت درجة الإغراء للسلوك المنحرف، و قد تتجمع تأثيرات الإحباطات المتتالية على مر الزمن بحيث أن بعض الخبرات البسيطة يمكن أن تتجمع لتثبيت استجابة منحرفة لا تحدثها أي خبرة بمفردها، وهذا الافتراض يعني أن تأثير إحباط الأحداث يستمر، وهو افتراض يلعب دورا هاما في جوانب عديدة من هذه النظرية.
وقد تعرضت نظرية دولارد و زملائه إلى قدر من النقد من وجهة نظر أنه ليس بالضرورة أن تكون كل صور الانحراف انتاج الإحباط، و أن هذه الصيغة ذهبت بعيدا، فالانحراف قد يكون نتاجا لعوامل أخرى، كأن يكون سلوكا عدائيا مثل الذي يتم استئجاره بغرض قتل الآخرين، أو من ينفذ أوامر كالحالة في الحروب، على أن هذا النقد مردود عليه من وجهة أن فريق جامعة (دولار وزملائه) قد استبعدوا العدوان الأدائي من أرائهم إذ لم يكونوا مهتمين بمثل "Yale" ييل هذا النمط من السلوك، وقصروا اهتمامهم على الانحراف الإستجابي أي الانحراف الناجم عن إعاقة سلسلة من الاستجابات المستثارة.
ومنه يمكن القول أن هذه النظرية تعتبر عدم تحقق الأهداف سبب الانحراف لدى الأحداث. هذا الأخير الذي تزداد حدته كلما زادت حدة عدم تحقق الأهداف. وأن الظروف الخارجية التي تعمل على إعاقة تحقق تلك الأهداف هي التي تسبب الانحراف وتولده سواء كان سلوكا يتم مباشرة في مواجهة مع العامل المحيط أم غير مباشرة في صورة انتقامية أخرى.
نظرية القهر الاجتماعي:
وينطلق أصحاب هذه النظرية من الإيمان بأن الانحراف ظاهرة اجتماعية ناتجة عن القهر والتسلط الاجتماعي الذي يمارسه بعض الأفراد تجاه البعض الآخر معتبرين الفقر مرتعا خصبا للجريمة وأنه يولد ضغطا على التركيبة الاجتماعية للنظام مما يؤدي إلى انحراف الأفراد، بمعنى أن الفقر باعتباره انعكاسا صارخا لانعدام العدالة الاجتماعية بين الطبقات يولد رفضا للقيم والأخلاق التي يؤمن بها غالبية أفراد النظام الاجتماعي؛ ولو اختل توازن القيم الاجتماعية كما يعتقد "إميل دوركايم (وهو أحد رواد هذه النظرية الأوائل)، فإن حالة الفوضى والاضطراب ستسود الأفراد والمجتمع ومثال ذلك: التطور الذي حدث في البلدان الرأسمالية في القرون الثلاثة الماضية أدى إلى اختلال في توازن القيم الأخلاقية والاجتماعية، الأمر الذي أدى بدوره إلى شعور الناس بانعدام وضوح منارات الهداية ومعالم الأخلاق. ونتيجة لذلك فقد ضعف وازع السيطرة على سلوك الإنسان الرأسمالي خصوصا على نطاق الشهوة والرغبة الشخصية، فأصبح الفرد منحل يرى ضرورة لفرض التهذيب الاجتماعي عليه وعلى الأفراد المحيطين به.
كما يدعي أصحاب هذه النظرية بأن الانحراف يعزي أيضا إلى عدم التوازن بين الهدف الذي يتبعه الفرد في حياته و الوسيلة التي يستخدمها في تحقيق ذلك الهدف في النظام الاجتماعي. فإذا كان الفارق بين الأهداف الطموحة و الوسائل المشروعة التي يستخدمها الأفراد كبيرة، أصبح الاختلال الأخلاقي لسلوك الأفراد أمرا واضحا، وهو ما يذهب إليه أيضا روبرت ميرتون، فحسب ادعاء النظام يستطيع الفرد نظريا- أن يصبح أغنى إنسان في المجتمع بجهده وعرقه أو أن يمسي فاشلا في تحصيل رزقه اليومي، ولكن نظرة سريعة على الواقع الخارجي تصبح شيئا مختلفا، فلا يستطيع كل الأفراد أن يكونوا أغنياء في وقت واحد لأن المال محدود بحدود النظام الاجتماعي و الاقتصادي، فإذا تراكم المال بيد الطبقة الغنية فإنه يسبب حرمانا ونقصانا عند الطبقة الفقيرة، فالفرد الذي لا يستطيع الوصول إلى أهدافه بالوسائل المقررة اجتماعيا يسلك سلوكا منحرفا يؤدي به إلى هدفه كالسرقة والرشوة و بيع المواد التي يحرمها القانون، وهنا يلعب القهر الاجتماعي دوار في توليد ضغط لدى بعض الأفراد کي ينحرفوا. ويعتبر لجوء النظام إلى القهر الاجتماعي ناتجة أساسا عن عجزه في سد و إشباع حاجات الأفراد بشكل يتناسب وكرامة الإنسان وحقه في العيش الكريم. ولذلك يشكل الانحراف ظاهرة رفض قوية للنظام الاجتماعي القائم على أساس الظلم وانعدام العدالة الاجتماعية.
نظرية دونالد تافت:
إهتم فيها بالثقافة العامة للمجتمع، وملخص هذه النظرية أنه إذا كانت ثقافة مجتمع ما تتميز بالديناميكية والتعقيد وتسود فيها معايير وقيم تمجد المادة وتعمل على تشجيع الصراع والمنافسة بين الأفراد وتشيد من جهة أخرى بمن ينجح في هذا الصدد وفي الوقت نفسه تغلق جميع منافذ النجاح أمام غالبية أفراد المجتمع فإن ذلك يجبرهم تحت ضغط الحاجة إلى التجمع في الأحياء والأماكن الخطيرة والتي تنعدم فيها أبسط ضروريات الحياة، وهو ما يؤدي إلى ظهور أمراض سلوكية تمثل خطر على المجتمع بأكمله.
ولعل ما يؤخذ على هذه النظرية هو عدم توضيحها للكيفية التي تتشكل بها تلك الثقافة التي ترى بأنها هي التي تؤدي إلى الانحراف، كما أنها لم تراع تعدد مظاهر وأشكال السلوك المنحرف بل أخذته بصفة شمولية موضحة أنه يمكن تفسيره ضمن الإطار الثقافي الذي ينشأ فيه.
يبدو بعد استعراض مختلف هذه النظريات التي حاولت تفسير ظاهرة الانحراف بصفة عامة، انطلاقا من منشأ كل واحدة منها - معظمها أمريكية - أنها جاءت معبرة عن اهتمامات وظروف تلك البيئة اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وايديولوجيا، مما يدعو إلى الحذر والتمعن، إذا ما أريد الاستفادة منها -هي أو غيرها- على المستوى المحلي، ومع ذلك يمكن النظر إليها على أنها تطرح أسئلة معقولة عن الواقع المعيش و إن كانت الإجابات ليست دائما كذلك.
وقد تم استعراض مختلف النظريات في محاولة لتفهم الظاهرة بكل تعقيداتها، وقد أظهرت بعض النظريات وجود ارتباط وثيق بين السلوك الانحرافي و الظروف الذاتية والنفسية للحدث - الفرد عموما - بينما أوضحت نظريات أخرى الارتباط بين الانحراف والفئات المحرومة والفقيرة اقتصاديا وثقافيا، فيما اتجهت أخرى إلى ربطه بحالة ضياع القيم والمعايير أو إلى التغير الاجتماعي.
وتبدو هذه النظريات في أغلبها، نظریات تبريرية لمواقف معينة النظام الرأسمالي وذلك بالنظر إلى الكيفية التي طرحت بها، والظروف المحيطة بها في نشأتها داخل بيئتها الخاصة مما يصب مهمة اعتمادها كأساس لتفسير ظاهرة انحراف الأحداث - أو الانحراف عموما - حتى وإن تشابهت معها في الظروف في بيئة أخرى، و كذا الأمر فیما يخص القيم التي تدعو إليها هذه النظريات، و كل هذا يستدعي أن تكون الاستفادة من هذه النظريات استفادة انتقائية ترعى فیها الخصوصية التاريخية والثقافية والاجتماعية لكل مجتمع، كما يجب الاستفادة أيضاً من الطرق المنهجية التي اعتمدتها حتى لا تصبح تلك النظريات مجرد تراث نظري.
وبعد هذا يمكن التطرق بصورة أشمل وأدق لأهمية الفقر كعامل من عوامل الانحراف لدى الأحداث بالتعرض لانعكاسات الفقر على حياتهم وكيف تؤدي تلك الانعكاسات بهم إلى الانحراف أو على الأقل كيف تخَلقُ البيئة الملائمة للانحراف؟
النظرية الاقتصادية:
يحاول بعض الدارسين من المشتغلين بدراسة الجريمة الربط بين الانحراف من جهة وبين العوامل الاقتصادية كالفقر والجوع وانخفاض الدخل والتطلعات الاقتصادية من جهة أخرى. وقد ظهرت مجموعة من الدراسات الاجتماعية المدعمة لهذا الغرض كما ظهرت بعض الدراسات المكذبة له في نفس الوقت وينطوي هذا الفرض على فرض ضمني يحاول حصر الجريمة إلى حد كبير داخل الطبقات الباحث الايطالي في الدنيا في المجتمع وهي الطبقات الأكثر فقرا والتي تتسم بانخفاض مستوى المعيشة أواخر Diverece في العالم الغربي وعلى سبيل المثال فقد كشفت دراسات القرن الماضي عن أن المجرمين المحكوم عليهم من أبناء الطبقة الفقيرة يصل عددهم إلى 90% من مجموع المحكوم عليهم في حين أن نسبة أبناء هذه الطبقة إلى أبناء كل طبقة لا تتعدى 60% فقط، كذلك فان أبحاث "شيكاكو " في علم الاجتماع تميل إلى دعم ذلك الفرض الذاهب إلى أن الانحراف والإجرام يشيعان أكثر بين أبناء الطبقات الدنيا أو الفقيرة أو المحرومة داخل المجتمع ، ويقول آخر بأنهم يجعلون من الانحراف ظاهرة مرتبطة بالفقر والأحياء المتخلفة التي يسكنها أبناء الطبقات الوسطى.
ولقد عزا العالم الهولندي "بونجر" الأفعال الإجرامية وخاصة جرائم الممتلكات إلى الفقر لأبناء الطبقة في ظل التنافس الرأسمالي والفقر ينبع عادة من المنافسة الاقتصادية غير الناجحة ويقود إلى التفكك الشخصي وهو من لوازم المجتمع الرأسمالي ومن هنا يصبح علاج الجريمة وفقا لهذه النظرية من خلال إعادة تنظيم وسائل الإنتاج وقيام مجتمع لا طبقي أي خالي من الطبقات ويقول "بونجر" أن النزعة الأنانية في الإنسان لا تؤدي بذاتها إلى جعله مجرما، وبسبب ظروف البيئة الحالية أصبح الإنسان أناني جدا أو أكثر قدرة على ارتكاب الجريمة ، ويقوم النظام الاقتصادي الحالي على أساس التبادل، والتبادل يؤدي غالى تنمية صفة الأنانية والمجتمع الذي يبنى على أساس التبادل يعزل أفراده عن بعضهم البعض بواسطة أضعاف الروابط بينهم فكل فريق من رفقاء التبادل يفكر في تحقيق منافعه حتى وان كانت على حساب الفريق الآخر.
ويذهب "بونجر" إلى القول إلى أن الاقتصاد والتجارة هو في نفس الوقت اللصوص وعلى ذلك يقول أن التاجر والسارق يشبهان بعضهما البعض من حيث أن كلا منهما يهتم بمصالحه الخاص فالفقر وفقا للرأي الراجح لا يكون عاملا مباشرا بحد ذاته ولكنه يولد على الأقل حالات اجتماعية وفردية تساعد على الإجرام وخاصة في المدن حيث أن المنتجات الاستهلاكية معروضة في زوايا الشوارع وتمثل مغريات جمة ،والأثر المباشر للفقر يكمن في اضطرار هؤلاء الأحداث إلى العمل في أتفه الحرف والخدمات ، وبذلك يتعرض عدد كبير منهم لاستغلال المهربين المحترفين الذين يستخدمونهم لتصريف بضائعهم أو استدراج الناس إلى أماكن تعاطي الرذيلة والمخدرات ، ولا يطول بهم المطاف حتى ينغمسوا في متاهات الانحلال الخلقي ويصبحوا أنفسهم ضحايا مما يسهم في انحطاط أية قيمة خلقية لديهم إلى جانب ذلك فان الفقر قد يورث عند البعض وهن الشخصية وضعف العزيمة واقتباس الأفكار الرديئة والمبادئ الهدامة والحقد على المجتمع وازدراء القانون العام.
ويرى الدكتور "برت" أنه وحتى في الحالات التي يكون فيها الفقر الدافع الرئيسي لانحراف الأحداث، فانه يجب الأخذ بعين الاعتبار أنه يعني الفقر بالمعنى النسبي، أي أن الفقر الناتج عن عدم إشباع الحاجات الملحة ، وعدم كفاية الدخل ، والفقر بحد ذاته لا يرتبط بالجناح وإلا لجنح كل الفقراء ، وإنما يرتبط الجناح بالفقر إذا صاحب الفقر هذا نوعا من المطامح الواسعة التي لا تجد أمامها الفرص لتحقيقها بالوسائل المشروعة ، وان وجدت هذه العلاقة فإنها تشير إلى خلل في النظام الاقتصادي والى تناقضات في البناء الاجتماعي.
وإذا كان الفقر لا يكون بمفرده سببا للانحراف عند الأحداث فانه قد يؤدي إلى ظهور كثيرا من حالات الانحراف خاصة إذا لازمه سوء الرعاية الذي يلازم عادة حياة الفقراء، لذا فان تحسين الوضع المادي للأسرة لا يزيل بذور الجريمة من قلوب أبنائها المنحرفين ولكنه سيؤدي إلى تخفيف من الميل إلى الإجرام في نفوس هؤلاء الأبناء.
وعموما هناك صلة واضحة بين الجريمة والجنوح والانحراف والظروف الاقتصادية ولكنها ليست صلة سببية مباشرة، فالفقر قد يكون دافعا للإجرام لدى بعض الناس وقد يكون أيضا دافعا للتمسك بالخلق الفاضل عند آخرين أو دافعا للعمل لتحسين المستوى الاقتصادي بأساليب مشروعة عند مجموعة أخرى من الناس ...الخ.
انطلاقا مما سبق نصل إلى أن مفهوم انحرف الأحداث یختلف تحديده باختلاف اهتمامات دارسیه وتخصص كل واحد منهم، سواء في الاقتصاد أو في علم النفس أو في علم الاجتماع، كما تتنوع مظاهر الانحراف لدى الأحداث لتشمل سلوكيات منحرفة كثیرة تتراوح بین البسيطة والمتوسطة والخطيرة، و كلها تستدعي تظافر الجهود للتصدي لها عن طريق الوقوف على أسبابها والظروف الملائمة لوجودها من أجل إزالتها أو التخفيف من وطأتها على الأقل، وقد سُجِّلت العديد من الجهود في هذا المجال تجسدت خاصة في الاتجاهات النظرية الكثيرة التي تناولت الظاهرة بالدارسة، والتي حاولت إعطاء تفسيرات علمية لها عن طريق تسليط الضوء على عواملها الرئيسية، فمنها من ردها إلى أسباب بيولوجية ترتبط بالبنية الجسمية للإنسان، ومنها من ردها إلى أخرى نفسية ترتبط بالتركيبة النفسية له، لیذهب الاتجاه الاجتماعي إلى ردِّها إلى عوامل اجتماعية ترتبط ببنية وحركية المجتمع ومؤسساته المختلفة. في حين اهتمت النظرية الاقتصادية بدور الفقر كعامل أساسي في جنوح الأحداث باعتبار أن الظروف المادية السيئة لمحيط الحدث الأسري والاجتماعي تعمل على دفعه للانحراف.