-->

أنوار العكشيوي: الخلفية العلمية للأنظمة الـترفيهية

لقد التزمت البشرية منذ القدم بمشاركة الحياة الجماعية بموجب عقد يلزم الأفراد التقيد بشروط الجماعة ونبذ كل النزوعات الفردية التي قد تؤدي إلى تشوه المجتمع. وبناء على هذه التكتلات البشرية، نجح الإنسان في التقدم وتطوير أساليب العيش وممارسة الأنشطة الفردية مع الأخر بكل حرية وأمان. وهنا برزت السمات الأولى للتنظيمات؛ من مؤسسة الأسرة إلى نشوء الدولة التي تعد الراعي والحافظ لهذه الممارسات. لكن هذا الوضع الجديد (ذو الطابع المؤسساتي) لم يمنع  البعض، أفراداً وجماعات، من خرق الأدوار الاجتماعية والقواعد والقوانين المشتركة. وبحكم الدينامية والتطور السريع الذي يعرفه المجتمع والذي يعد سيرورة حتمية لكل المجتمعات، بانت واشتدت الحاجة إلى علم يروم دراسة وتنقية المجتمع من المشاكل التي صاحبت هذا التطور؛ إن الحديث هنا عن علم الاجتماع، الذي سخر آلياته وفروعه من قبيل سوسيولوجيا التنظيمات، لإعادة التوازن وترتيب هذه الهياكل التي يعتريها التشوه والفوضى. وقد تعددت صور وأشكال هذه التنظيمات ولم تنحصر في المجالات الاقتصادية أو السياسية أو المهنية، بل تعدتها لتغطي الجوانب الترفيهية أو الترويحية... ومن هنا سنحاول الوقوف على أهم التيارات والمقاربات النظرية التي عالجت التنظيمات، واسقاط رؤيتها ومضمون أفكارها على النظام الترفيهي أو الترويحي  نموذجاً، وإلى أي حد يلتزم هذا النظام بالمناهج والقواعد التي تسطرها هذه المدارس. بمعنى أخر، سنحاول مقاربة النظام الترويحي أو الترفيهي من منظور المدرسة النسقية ومدرسة التحليل الاستراتيجي، وتبيان المواقف التي تقول بها ومزاعم روادها بخصوص التنظيمات. أي أننا سنعمل على طرح الأسس النظرية ونسقطها لاحقاً على هذا النظام، وننظر إلى أي حد تبرز تجليات وآراء هذه المدارس على أرض الواقع.

على طول المسار  الذي قطعته البيروقراطية أشواطاً طويلة، والذي تخللته عدة تيارات فكرية حاولت مقاربته من موقعها بناءاً على أفكار منظريها. بدايةً من التيارات الكلاسيكية ذات المواقف العقلانية،  مروراً على مدرسة العلاقات الإنسانية وصولاً إلى المدرسة النسقية ومدرسة التحليل الاستراتيجي. هذه الأخيرة التي حاولت رد الاعتبار لذات الإنسان ورغباته الخصة بعيداً عن التصورات التي جردته، بصورة مجحفة، من كيانه الواعي  وقلصت بشدة هامش حريته داخل التنظيمات، وكذلك حاولت تجاوز النقص والقصور الذي ميز المدارس الكلاسيكية، بحيث رفضت كل ما يتعلق بمنطق السببية المطلقة في تأثير وتأثر حتمي، وكذلك المقولات المتعلقة بالتصور العلمي للعمل (OST).

مدرسة التحليل الاستراتيجي:

ان التحليل الاستراتيجي يتميز ويرتبط أساساً بالكشف عن النسق الذي يتأطر ضمنه السلوك التنظيمي لمختلف الفاعلين، بحيث اعتبر التنظيم بناء والفاعلون فيه هم من يملكون ويؤسسون للإجابة على الإكراهات التي تواجه التنظيم، كما أن الفاعل في إطار مدرسة التحليل الاستراتيجي، يتمتع بنوع من الحرية ومنحه قدراً من الاستقلالية عن التنظيم الذي ينتمي إليه، وبالتالي ممارسة استراتيجياته الخاصة لتحقيق أهدافه وغاياته الفردية. وتجدر الإشارة إلى أن الفاعل  الاجتماعي قد يكون إما فرداً أو جماعةً تتبنى استراتيجية معينة لتحقيق منافعها الخاصة. إن التنظيم مهما كانت درجة القواعد التي تنظمه كبيرة،  لا يمنع من وجود مناطق يغفل عنها التنظيم ولا تطالها تلك القواعد المهيكلة له أو أنها لا تلزمها. وبالتالي، فإن هامش الحرية التي تتحقق للفاعل تمارس في تلك المناطق التي تعرف بمناطق الظلZone d’incertitude . إنها العتمة الموجودة خلف العلبة السوداء التي تترك للفاعل فراغاً لبناء استراتيجياته.

لقد تميزت مدرسة التحليل الاستراتيجي  مع ميشيل كروزيه بمفهوم السلطة باعتبارها نسقاً يحدد العلاقة بين العمال والإدارة أو العمال فيما بينهم، كأنها القدرة على التأثير في الأخر، وبالتالي فإن السلطة ليست صفة تأتي من الموقع الهرمي في التنظيم، وإنما هي علاقة يتم التفاوض بشئنها. ولقد أوضحت مدرسة التحليل الاستراتيجي أن التنظيمات تتكون من مجموعة من الفاعلين الذين تربطهم علاقات تفاعلية ببعضهم البعض، وإن الكيفية التي يتم من خلالها تنظيم هذه العلاقات الداخلية هي الصورة الملموسة لنسق الأفعال التي يتم من خلالها حل الإشكالات التي قد تواجههم داخل التنظيم.

أهم الأفكار التي ميزت مدرسة التحليل الاستراتيجي:

  1. السلطة: متاحة لجميع مكونات وهياكل النسق من الفاعلين الاجتماعيين، وهي صفة متداولة بينهم وتعتبر مع ميشل كروزيه القدرة على التأثير في الأخر. ولم تعد السلطة محصورة في أيادي صناع القرار من الرؤساء أو بناء على الموقع الذي يحتله الفاعل داخل النسق، كما كان الأمر في المدارس الكلاسيكية.
  2. مناطق الظل: هي المناطق التي لا تطالها قوانين التنظيم ويغفل عنها، وفيها يمارس الفاعل الحرية التي يتحصل عليها ويشعر فيها بنوع من الاستقلالية والقدرة على الاختيار. وقد تسمى أحياناً بمناطق العتمة التي يستغلها الفاعلون الاجتماعيون لتحقيق وبناء استراتيجياتهم الخاصة وأهدافهم الذاتية.
  3. الاستراتيجيات: يمكننا التميز بين نوعين من الاستراتيجيات؛ استراتيجيات عامة؛ وهي التي يسطرها التنظيم ويسخر كل الوسائل والإمكانيات المتاحة لتحقيق أهدافه. واستراتيجيات خاصة؛ وهي التي يسطرها يستقل بها الفاعل داخل التنظيم، لتحقيق غاياته ومطامح الذاتية، وينفرد بها عن التنظيم الذي ينتمي إليه.

المدرسة النسقية:

ذهبت مناهج المدرسة النسقية لتدرس علاقة التنظيم بواقعه أو البيئة التي ينتمي إليها؛ بحيث وسعت مجال اشتغالها وركزت على محيط التنظيم. وقد حددت هذه المدرسة العناصر التي يتكون منها التنظيم في شكلين رئيسيين: يرتبط الشكل الأول بالعوامل الداخلية المكونة للتنظيم؛ من عوامل الإنتاج وسيرورات التحويل والاستراتيجيات ثم المنتوجات. أما الشكل الثاني فيتعلق بالعوامل المؤطرة لهذه الأجزاء؛ يتعلق الأمر هنا بالعوامل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. وهي ما يشار إليها بالبيئة أو المحيط. ويمكن القول بأن انتشار وتطور التنظيمات يرتبط بدرجة ثبات هذه البنيات المحيطة والمحاطة.

ويمكننا الإشارة إلى أن  النسق يتحدد من خلال مفهوم الكلية والتفاعل، أي أن دراسة وتحليل النسق يستلزم أخذ التنظيم بشكل كلي من خلال تفاعل كل تلك العناصر المشكلة له، على اعتبار أن النسق مجموع وحدات أو عناصر تربط بينها علاقات متبادلة. وقد آمن تالكوت بارسونز أن دراسة الفعل الاجتماعي كفعل إنساني بمنهج نسقي ممكن، لأن كل الأفعال الاجتماعية تمارس في الواقع في شكل وحدات وأجزاء صادرة عن عدد من الفاعلين.

سمات وتجليات رؤية مدرسة التحليل الاستراتيجي في النظام الترفيهي بالمغرب:

بعد هذا التبيان النظري لهذه المدارس والتحليل المنهجي الذي تقترحه للهياكل التنظيمية، سنعمل على تقصي أفكارها داخل المجال الترفيهي أو الترويحي بالمغرب. كتنظيم يروم تحقيق بعض المنافع التربوية في نموذج عطلة للجميع الذي تقدمه وتشرف عليه وزارة الشباب والرياضة.

من المعلوم أن مدرسة التحليل الاستراتيجي في مقارباتها لموضوع التنظيمات ركزت في مجمل أفكارها على الهياكل الداخلية للتنظيم، وأوضحت الجوانب التي تغفلها قوانين وقواعد واستراتيجية التنظيم، ما يوفر هامشاً لممارسة الفاعل الاجتماعي لنوع من الحرية. وبالتالي استقلالية نسبية عن التنظيم الذي ينتمي إليه. هذا الأمر يبدو واضحاً في النموذج الذي نقترحه؛ نعني هنا عطلة للجميع؛ بحيث أن هذا التنظيم يعرف في القواعد المهيكلة له فراغاً في بعض الجوانب، هذا الفراغ  تستغله الجمعيات كفاعل اجتماعي ويترك لها فرصة تفعيل استراتيجياتها الخاصة لتحقيق منافع لها تنفرد وتستقل بها عن المنافع التي يروم التنظيم ( عطلة للجميع) تحقيقها.

فمثلاً؛ نجد أن وزارة الشباب والرياضة عندما تقدم برنامج عطلة للجميع كمشروع لتنفيذه في أوقات معينة من السنة، تسطر وتحدد مجموعة من الشروط اللازم توفرها في جمعيات المجتمع المدني حاملي المشروع، هذه القواعد التنظيمية المحددة لا تطال كل جوانب وحيثيات المشروع بدقة. كأن نجدها لا تشترط ولا تلزم الجمعيات بتحديد قيمة المساهمات المادية (الواجب) على الأطفال تسديدها للاستفادة من الخدمات الترفيهية التي تقدمها هذه الجمعيات، وبالتالي تعطى الفرصة ويفسح المجال للفاعل الاجتماعي لتحديد القيم المادية اللازم تسديدها من قبل أولياء أمور الأطفال؛ وعليه يتضح جلياً أن الغايات والأهداف قد تختلف بين الفاعل الاجتماعي والتنظيم الذي ينتمي إليه.

الأمر نفسه نجده فيما يخص مفهوم السلطة كصفة متداولة بين مختلف مكونات وهياكل التنظيم؛ بحيث أنه بقدر السلطة الممارسة على الفاعل الاجتماعي (الجمعيات أو المنظمات) من طرف التنظيم (عطلة للجميع) ، والمتمثلة مثلاً  في التوقيع على اتفاقية شراكة  مع وزارة الشباب والرياضة أو بيان المؤهلات التربوية والخدماتية أو في الشروط والغايات التي يجب أن تحققها الجمعيات لفائدة المستفيدين وبطرق معينة. على اعتبار أن هذه الشروط والمساطر شكل من أشكال السلطة. وبالمقابل، تمارس على هذا الأخير كذلك سلطة من طرف الفاعل الاجتماعي حينما يفاوضه بخصوص الدعم الذي يقدمه له مقبل إنجاح المرحلة التخريمية؛ سواء تعلق الأمر بطبيعة المرافق ومراكز التخييم أو جودة  التغذية التي يفترض على التنظيم توفيرها. فبقدر الإمكانيات المقدمة للفاعل الاجتماعي تقدم الخدمات للتنظيم، خدمات التنشيط والترفيه والتربية والتقويم.

وبالتالي فالفاعل الاجتماعي يحدد للتنظيم الشروط الدنيا التي يمكنه الخضوع لها. وحينما يفاوضه على هذه الشروط فهو يمارس ويفرض سلطته عليه من اجل إخضاعه.

سمات وتجليات رؤية المدرسة النسقية في النظام الترفيهي بالمغرب:

أما بخصوص الأفكار التي تذهب إليها المدرسة النسقية والتي تتعدى دراسة الهيكلة التنظيمية الداخلية للتنظيم إلى دراسة المحيط والبيئة التي ينتمي إليها. فيبدو أن النموذج الذي اقترحناه سابقاً يسير في جزء منه وفق هذه الرؤية. على اعتبار أن البرنامج الوطني للتخييم كنظام ترويحي يهدف إلى تكوين الفئات الناشئة وتثقيفها، ينظم ويؤطر بعلاقات تشاركية مع جهات قد نعتبرها عوامل خارجية مساهمة في إنجاح هذا المشروع الترفيهي، وهذه العلاقات بمثابة البيئة والمحيط الذي يمارس في رعايته برنامج عطلة للجميع؛ بحيث تبقى أنشطة هذا الأخير محروسة بالتغطية التي تقدمها وزارة الصحة والجماعات الترابية والوقاية المدنية والسلطات الإقليمية والأمنية. كل هذه العناصر بمثابة الحقل الذي تمارس في ظله أنشطة التنظيم، الذي يظم بدوره مختلف الفاعلين الاجتماعيين أفراداً وجماعات. وبالتالي فإن نجاح البرامج المسطرة لكل مرحلة أو فشلها تتشاركه وتتقاسمه كل هذه الجهات لأنها تشكل نسقاً متكاملاً  من الأفعال الاجتماعية الممكن تقسيمها إلى أقسام وأفعال متعددة ومصغرة.

أنوار العكشيوي

في الختام، لا يسعنا سوى التأكيد على أن مختلف المدارس التي تعاقبت في مسار فهم وتحليل التنظيمات الاجتماعية، كل منها ساهمت في تفسير وحل المشكلات التي تبزغ في التنظيم من زاوية نظرها الخاصة، بناء على السياقات التاريخية والفكرية التي ظهرت فيها. إلا أنه ومع ذلك، تبقى المدرسة النسقية ومدرسة التحليل الاستراتيجي من بين المدارس التي حاولت بشكل من الأشكال رد الاعتبار للفاعل الاجتماعي، وتوسيع هامش حريته و دائرة ممارسة سلطته. بما يتوافق مع شخصه كذات واعية ومفكرة. وإننا في هذا النموذج من النظم الذي اشتغلنا عليه، حاولنا تقصي مظاهر وسمات أفكار المدرستين. ليتبين لنا في الأخير، أن المناهج التي تقترحها في تحليل الهياكل التنظيمية أقرب إلى الواقع. وقد يساعد الاسترشاد بمناهجها حل بعض المشاكل التي تواجه هذه النظم لتحقيق مزيد من الفاعلية والإنتاجية.

إرسال تعليق

شاركنا رأيك في الموضوع

أحدث أقدم