إنه لمن الصعب تحديد عامل وتفسيره على أنه السبب وراء ارتكاب الأفعال الإجرامية من داخل الأسرة، ذلك أن هذا الفعل يكون وليد تفاعل مجموعة من العوامل والسياقات تعمل كلها في شكل وحدة تَأثير تجر الأسرة إلى ممارسة العنف والعدوان على أفرادها. هذه السياقات التي فرضها ظروف عيش الأسرة والبيئة التي تتواجد فيها، فالأسرة التي تتواجد داخل واقع سياسي غير مستقر أو في مناطق نزاع يغيب فيها الأمن والاستقرار أو تدني مستواها المعيشي أو العلمي تكون أكثر قابلية لتوليد العنف وتوجيه العنف وتدويره بين أفاردها. ولعل فهم هذه الأسباب والعوامل يمكن من وضع تصورات جديدة للحد من هذه السلوكات أو التقليص من حدتها، ويمكن الوقوف عند بعض من العوامل الأكثر انتشاراً وتنشيطاً لسلوك العنف والعدوان داخل الأسرة:
الوضع الاقتصادي للأسرة:
إن الأسرة كمؤسسة اجتماعية تعتمد على على عدة مقومات أساسية لاستمرارية أدائها الوظيفي داخل المجتمع، ويعد المقوم الاقتصادي من أول متطلبات الأسرة لتحقيق التوازن والتفاعل مع المجتمع ومنه إشباع رغباتها وحاجياتها الأساسية. بحيث أن المحرك الأساسي المنشط للأسرة هو المورد المالي المادي، ولعل قيام علاقات الزواج والمصاهرة رهين بوضع الزوج المادي أولاً ثم الزوجة ثانياً، كون أن من بين شروط الزواج الإنفاق على الزوجة والأبناء، بحيث أن الإنفاق أول حقوق الأسرة على الزوج. فتعمل الأسرة بعد توفر المورد المالي على ترشيد نفقاتها وتوزيعها حسب الأولويات.
ولكن عــدم توفر المقــــوم الاقتصــــادي للأسرة يضعنا أمـــام أسرة تعــــاني الخصـاص في المأكل والمشرب ورداءة الملبس والمسكن... فتكون في حالة من الفقر الذي قد لا يتحمله أفراد الأسرة فيلجؤون إلى لوم المسؤول وإلقاء التهم عليه، فتصبح الأسرة في حالة من المشاحنات.
وقد توصلت الدراسات الاجتماعية في أمريكا إلى أن الانتماء الطبقي للأسرة له أثر كبير في اختلاف الجرائم التي يرتكبها الأفراد. كما وأشار أن الفقر ونقص الموارد اللازمة لإشباع الإنسان من كل ما يعتقد أن له الحق فيه، عوامل من الممكن أن تصبح أسباباً للجريمة. مما يدل على أن المكانة الاقتصادية السيئة للأسرة يؤثر بشكل واضح في إتيان بعض الأفراد للفعل الإجرامي أو السلوك المنحرف، فانخفاض مستوى العيش على الحدود الدنيا التي لا تسمح بتوفير حاجيات الأسرة الأساسية يدفع بأفرادها إلى التعويض وتحقيق الإشباع بطرق غير مشروعة؛ كالسرقة والقتل والممارسات غير الأخلاقية. كما وأن هناك بعض الأسر التي توجه أفرادها إلى البغاء فقط لأنها تدر عليهم مدخولاً مادياً، أو أنها تدفع بأطفالها إلى العمل في ظروف غير أمنة ولا تتوافق مع سنهم، أو إجبارهم على التسول في الشارع معرضين حياة الأبناء للخطر. فنكون حينها أمام صور متعدد من الجريمة مختلفة الدرجات والأضرار يكون بعضها صحياً والأخر نفسياً أو علمياً حين فشلهم في مواصلة الدراسة.
إن الوضع المادي المنخفض حالة اقتصادية نتاج للبطالة، أو سوء تدبير الموارد الملية أو العدد الكبير للأفراد الأسرة مع قلة المداخيل، وبالتالي تدهور الحالة الصحية والمستوى التعليمي والبيئة السكنية. وفي نفس السياق فقد أكدت أغلب الدراسات الاجتماعية على "أهمية البيئة السكنية بوصفها عاملاً مساعداً على الانحراف والجريمة، فطبيعة السكن وخصائصه المعيارية والشكلية التي تشكل بنية الوحدة السكنية للأسرة له دور هام في سلوكيات أفراد الأسرة، بالإضافة للمسكن ذاته من حيث مرافقه أو من حيث قدمه وحدثته، فهذا يلعب دوراً هاماً في مجال تفكك الأسرة أو تماسكها، فالإنسان يكتسب قيمة الشخصية وعادته وسلوكه من الجماعات التي يعيش معها" .
الحياة النفسية للأسرة:
عدد الأطفال الذين يتعرضون إلى أشكال مختلفة من العنف وسوء المعاملة في المجتمع في ارتفاع مقلق ومخيف جداً، بحيث ظهرت وتطورت أشكال جديدة من العنف تستهدف الأطفال بطرق مختلفة، ولم يعد الجناة والمذنبون في حق الأحداث يأتون من محيط الطفل فحسب، بل إن الأسرة أصبحت -هي الأخرى- تعرف في حالات شاذة نماذج من الحيف على حقوق أطفالها؛ وترتبط هذه النماذج غالباً بأشكال العنف التي تستهدف شخصية الطفل وتهدد سلامته النفسية. إن هذه الأسر تعرض أطفالها للإرهاب والحوادث المروعة عن طريق الضرب والصراخ في وجوههم أو مشاهدة الخلافات الزوجية التي قد تصل إلى حد السب والقدف أو العراك، مما يسبب أثراً نفسياً سيئاً جداً في اللاشعور عند الأبناء، هذا الأثر الذي يلازمهم طيلة حياتهم وقد يتم ترجمته وتصريفه على شكل أفعال إجرامية لا تتوافق مع نظام المجتمع.
كما وأن الرغبات التي تعتبر المحرك والمنشط لسلوك الشخص والتي يكون مصدرها الغرائز، قد تتعرض في أحيانٍ كثيرة إلى الكبت والحرمان، بحيث أن هذه الرغبات تتصادم في الواقع من مجموعة من العراقيل سواء القانونية أو الأخلاقية التي لا تسمح بإشباع تلك الغرائز، فيتم كبتها في العقل الباطن للشخص مولدة بذلك صراعات نفسية أليمة، فتبحث لها عن منفذ للخروج للواقع، فتصرف حينها في أشكال مختلفة قد تكون مقبولة اجتماعياً، وقد لا تكون كذلك، بمعنى أنها لا قد تعوض في صور منحرفة.
وقد فسرت نظرية التحليل النفسي مجموع السلوكات التي يقوم بها الإنسان على أنها نتاج الخبرة السلوكية التي مر بها الشخص في مرحلة طفولته، كالعنف الممارس عليه من داخل الأسرة، أو إلى الرغبات والغرائز المكبوتة والتي لا يتم إشباعها في صور صريحة فتترجم فيما بعد إلى أشكال قد يتعامل معها المجتمع ( كترجمة الرغبات الجنسية في شكل أعمال أدبية وكتابات روائية)، أو قد تخرج كفعل وسلوك إجرامي صريح يعاكس تطلعات المجتمع.
من خلال ما سبق يمكن القول أن نظرية التحليل النفسي تؤكد على دور الدوافع اللاشعورية والصراعات العقلية المكبوتة، وعلى ذلك فإن الفرد قد يرتكب الجريمة من أجل إشباع حاجاته للعقاب الناتجة عن فعل خطأ ارتكبه الفرد في الطفولة المبكرة، فإن الرغبة الجنسية المكبوتة قد يشبعها الفرد بطريقة غير مباشرة عن طريق نشاط بديل وممنوع أو محرم ومثير مثل السرقة، كذلك فإن كراهيته المستترة نحو الأب ربما يعبر عنها بانحراف عام نحو السلطة، كذلك فإن الشعور بالنقص قد يعبر عنه بالتعويض بالعمل الإجرامي الجريء، فنتيجة للتربية الخاطئة قد ينشأ الطفل مريضاً ببعض الانحرافات السلوكية كالسادية والمازوشية، وقد يصاب الطفل بالأمراض النفسية مثل الفوبيا واضطرابات سلوكية كالانحراف السيكوباتي.
التميز وعقدة النقص:
إن من بين العوامل المحفزة على ارتكاب الجريمة من داخل حرم الأسرة التميز بين الأبناء على أي أساس أو تحت أي مبرر. التميز الذي يولد الكراهية والحقد والغيرة بين الأبناء كموضوع للمقارنة والتمايز. هذا الأمر يجعل الشخص الأقل حضاً أو المنبوذ يفكر في (نصيبه) من الود والحب واهتمام الأسرة، وهو الأمر الذي لا يتحقق أبداً وبالتالي تنامي الشعور بالنقص والإقصاء. فيكون بذلك الشعور بالنقص كما عرفه الأخصائيون بأنه استعداد لاشعوري مكبوت ينشأ من تعرض الفرد خاصة الطفل لمواقف كثيرة متكررة تشعره بالعجز والنقص والفشل. ومما يزيد من حجم عقدة النقص هذه؛ النظرة الاحتقارية للفرد والحرمان الأسري ثم طبيعة تنشئته وتربيته.
أياً كان النقص ناشئ سواء عن قصور اجتماعي أو عضوي، فإنه يثير الأسى والنقمة على صاحبه، مما يؤدي إلى دخوله بخواطر منفردة ومؤلمة يكون مصيرها بالمجمل الكبت في باطن اللاشعور، الأمر الذي يؤدي إلى عقدة النقص، وهناك عدة عوامل تؤدي لنشوء عقدة النقص فيما يخص الأطفال، مثل عدم الاهتمام بتعبيرات الطفل عن إحساساته ورغباته وكذلك آرائه، وحرمانه من إبراز براعتهن أو تكليفه بأعمال بعيدة عن طاقته لأجل القيام بها الأمر الذي يؤدي إلى أن يفشل بتحقيقها، أو حتى عند عقد مقارنات ما بينه وبين إخوانه ففي هذه الحالات يشعر الطفل بنوع من الضعف بالشخصية، الأمر الذي يؤدي إلى إثارة انفعالات أليمة، تتماسك بتكرارها وتغوص في اللاشعور، مؤدية إلى عقدة النقص.