-->

تاريخ نشأة السياسات العمومية

 

تاريخ نشأة السياسات العمومية

إن السياسات العمومية شأنها شأن باقي الفروع العلمية التي تتخذ من الظواهر الاجتماعية والسياسية موضوعا لها، فهي  تتخذ مكانها ضمن حقل معرفي قائم ومتشعب، وتوجد في ملتقى علم السياسة والقانون والاقتصاد والسوسيولوجيا والتسيير والتدبير والإدارة والتاريخ، لذا فمن الطبيعي أن تستمد منها بعض مفاهيمها الأساسية  لكن مع ذلك فإن تحليل السياسات العمومية باعتبارها علما يتناول الدولة وهي في حالة فعل  داخل المجتمع العام يجعل منها العلم الأكثر حداثة في إطار حقل العلوم السياسية. 

إن اندراج مجال تحليل السياسات العمومية ضمن حقل العلوم الاجتماعية بشكل عام ومجال علم السياسة بشكل خاص يضع أية محاولة لوضع تعريف محدد، أمام صعوبة  حقيقية، وذلك من منطلق أن حقل العلوم الاجتماعية يتسم بصعوبة الاتفاق العام حول تعريف المصطلحات وذلك نتيجة تعقيد الظاهرة الاجتماعية وتعدد أبعادها.

 فالفاعلين الحكوميين يضيقون دائما من دائرة الأعمال التي يمكن اعتبارها بمثابة سياسات عمومية مقارنة مع تلك التي تثير اهتمامات الباحثين في مجال السياسات العمومية، فإذا كان الفاعلون الحكوميون يحاولون باستمرار التقليص من النشاطات التي يطلقون عليها فعلا سياسات عمومية، فإنه على العكس  من ذلك، نرى أن الباحثين في مجال السياسات العمومية  يعملون دائما على توسيع دائرتها بحيث تشمل عندهم  كل الأعمال التي يقوم بها الفاعلون الحكوميون وتلك التي لا يقومون بها.

وهي في نظر الفاعلين الحكوميين تلك الالتزامات المعلن عنها في شكل وثائق محددة والتي غالبا ما تكون حصيلة لسيرورة سياسية يتم التوافق بشأنها داخل اللجان المعنية والتي تعطي الضوء الأخضر للحكومة في التحرك  في اتجاه معين أو القيام بإجراءات محددة.

ويرى الباحثون في السياسات العمومية أنه في كثير من الأحوال قد نكون أمام سياسات عمومية لا يتم صياغتها بشكل دقيق في وثائق عمومية يتم اعدادها سلفا وإنما يتم اقرارها لمواجهة وضعية خاصة أو أزمة طارئة أي أن الكثير من السياسات العمومية قد تتخذ بغاية مواجهة بعض المشاكل التي تظهر بشكل مفاجئ أثناء ممارسة الحكومة لمهامها.

وتفكك السياسات العمومية إلى عدة برامج والتي تجزأ بدورها إلى عدة مشاريع ، وبالنسبة للباحثين فهم ينظرون للعمل الحكومي في مجمله سواء سياسات أو  برامج أو مشاريع باعتباره سياسة عمومية.

إذا السياسات العمومية تعبير عن رؤية تمكن من إيجاد بنيات في اتجاه معين بغرض تنظيم المجتمع ، فالأهمية التي يعطيها مجتمع ما لقطاع عمومي كالصحة مثلا، تتوقف على كيفية ادراك الفاعلين على مستوى المجتمع للصحة عموما،  للأمراض، للمخاطر ولقيمة الحياة والموت وبالتالي فالسياسات العمومية التي يتم اعتمادها على هذا المستوى ما هي إلا تعبير عن تلك النظرة وانعكاس لها في شكل نشاطات وإجراءات خاصة.

بعد أن تطرقنا لمفهوم السياسات العمومية كفرع من فروع العلوم السياسية، نطرح الإشكالية التالية: كيف نشأت السياسات العمومية بصفة عامة؟ والسياسات العمومية الخاصة بالطفولة والأسرة بصفة خاصة؟

نشأة السياسات العمومية

بالرغم من أن موضوع السياسات العمومية كحقل فرعي في إطار مجال العلوم السياسية والإدارية حديث النشأة، إلا أنه مع ذلك نجد بوادرها في التراث الحضاري الإنساني القديم. فمنذ أن وجد الانسان وتشكل في ظل جماعات منظمة سياسيا زادت اهتماماته بمختلف الظواهر التي تحيط به، وسخر كل امكانياته لفهمها وتقديم إجابات عنها. ومن هذا المنطلق أبدع العديد من العلوم التي تتناول جانبا من الجوانب التي تخص حياة الأفراد والجماعات، ومن بين أهم هذه العلوم تلك التي تتعلق بشؤون الأفراد ومشاكلهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية، مما يعني أن دراسة الطرق والوسائل الضرورية لترقية الرفاه العام تعود أصولها إلى قرون مضت، وبالتالي فإيجاد حلول سياسية عبر وضع سياسات تخص كل الأفراد من الأمور السائدة داخل كل المجتمعات في مرحلة انتقالها إلى بناء الأشكال التنظيمية.

ظهور السياسات العمومية

يمكن أن نشير إلى أن بداية السياسات العمومية من الناحية التاريخية ترتبط بالأشكال الأولى للسلطة السياسية الممأسسة التي عرفتها المجتمعات القديمة، فالإنسان منذ أن تشكل في جماعات منظمة سياسيا كان دائما صانع سياسات، والتي تبلورت في شكل فرض الضرائب والتنظيم الإداري وإيجاد القدرة الدفاعية أو الحربية وتنظيم عملية التموين والتزويد بالسلع وبناء المدن وتهيئتها ومراقبة أفراد المجتمع.

بروز السياسات العمومية بالمعنى الحديث:

إذا كانت دراسة نشاطات وأعمال الحكومات ليست مسألة جديدة بشكل كلي، فإن تطور التحليل من زاوية السياسات العمومية تبرز توجها أصيلا وجديدا للبحث، إن هذه المقاربة الجديدة للفعل العمومي القائمة على أساس توجيه الاهتمام إلى ما تفعله الحكومة وما لا تفعله، والتي كانت مستبعدة إلى وقت قريب من لدن العلوم الاجتماعية نجد جذورها في سياق تطور اجتماعي وسياسي محدد ذلك أنه انطلاقا من القرن السادس عشر إلى حدود القرن التاسع عشر، ستعرف المجتمعات البشرية تطورات مهمة أدت إلى ولادة شكل تنظيمي جديد "الدولة".

وفي منتصف القرن 19 ستؤدي تلك التطورات التي حدثت على مستوى بناء الجماعة السياسية إلى ولادة ما نسميه بالسياسات العمومية والتي يمكن تحديدها بكونها الشكل الجديد لحكم المجتمعات المعقدة.

نشير إلى أن هناك تطورين أساسيين ساهما في بروز السياسات العمومية كمقاربة جديدة في تناول وتحليل الأعمال الصادرة عن الحكومة.

التطور الأول: أخذ شكل مسار متجه نحو احتكار مجموعة من السلطات لصالح الملك، وذلك كما هو الشأن بالنسبة للضرائب، النقود، الأمن والحرب، هذه السلطات التي ستشكل القاعدة الأساسية للدولة الحديثة.

التطور الثاني: يتعلق الأمر هنا بما يسميه مشيل فوكو بمعارف السلطة بمعنى مجموعة التقيات التي ستمكن الدولة من إدارة الأقاليم والشعوب وهذا الشكل الجديد من الحكم سيغير من طبيعة العلاقة القائمة بين السلطة والمجتمع، من خلال اعتماد إجراءات فعالة لمحاربة بعض الأمراض المعدية أو تنظيم التجارة مثلا.

إن هذا المرور نحو مجتمع يتسم بتعقيد بنياته وعلاقاته الاجتماعية هو الذي يفسر حسب بيير مولر ولادة السياسات العمومية.

تجمع غالبية الدراسات التي تتناول السياسات العمومية على أن الولادة الحقيقية لهذا الحقل المعرفي كميدان بحث علمي منظم، كانت في الولايات المتحدة الأمريكية خلال فترة ما قبل الحرب العالمية الثانية وترجع البداية الأولى لتأسيسه من خلال التساؤل الذي طرحه هارولد لاسويل سنة 1936 في كتابه السياسة، من يحصل على ماذا؟ متى وكيف؟ فهذا يحيل على منظور جديد فيما يتعلق بسير الشؤون العمومية حيث تم النظر إليه من زاوية مسار صنع سياسات معينة في ظل سياق عقلية الدولة والسياسة.

إن "لاسويل" يجسد أكثر من أي باحث آخر منظورا مغايرا للسياسة سيقوده انطلاقا من ثلاثينات القرن الماضي الى الخمسينات منه، إلى التأكيد على الأهمية الفكرية والاجتماعية للعلوم الاجتماعية عبر تكريس السياسات العمومية من خلال ثلاثة سمات أساسية: تجريبها، تعددية اختصاصاتها وتوجيهها نحو المشاكل التي تواجه الجماعة، وهذا ما سيبلوره بشكل أكثر وضوحا من خلال كتاب مشترك مع "دانييل ليرنر" سنة 1951 حول علوم صنع السياسات العمومية الذي سيركز فيه على الطابع المعرفي والتجريبي لهذا الحقل العلمي الجديد فبالنسبة إليه إذا كان من الضروري خلق معرفة بخصوص معالجة المشاكل العامة فإن مثل هذه العملية وحدها تبقى غير كافية إذا لم توضع تلك المعرفة رهن إشارة الفاعلين أنفسهم سواء تعلق الأمر بالأفراد أو صانعي السياسات العمومية.

وهناك دراسات أخرى إلى جانب دراسات لاسويل والتي ساهمت في تأسيس علم تحليل لسياسات العمومية ونشير إلى دراسات شارل مريام سنة 1921 التي يعلن فيها عن ولادة مقاربة علمية جديدة للسياسة ترتبط بنوع من عدم الرضا العميق تجاه مساهمة العلوم الاجتماعية في دراسة عمليات الحكومة.

وخلال الحرب العالمية الثانية لجأت الولايات المتحدة الأمريكية إلى عدد كبير من علماء النفس والاجتماع والإدارة العامة والسياسة وغيرهم، وذلك بهدف دراسة سياسات عمومية مقترحة أو منفذة والتوصية بشأنها.

وكان من نتائج هذا النشاط العلمي الذي أخذ شكل سياسات عمومية بعد الحرب، بروز مؤسسات علمية خاصة تهدف للربح  وأخرى تتولاها أجهزة البحث العلمي التابعة لإدارات وأجهزة الحكومة وأخرى غير تابعة للحكومة لكنها لا تسعى للربح وإنما لخدمة الصالح العام.[1] 

وبعد الحرب العالمية الثانية وفي خضم تنزيل مشاريع عمومية لإعادة إحياء دول أوروبا الغربية، انتقل التركيز من المؤسسات الى العمليات والسلوك.

وفي هذه الفترة، كان مفهوم السياسات العمومية مرتبطا بشكل وثيق بمؤسسة الدولة، بيد أن هذا الارتباط سرعان ما تراجع عند بداية الثمانينات من القرن الماضي، وذلك بعد بروز مفاهيم كاللامركزية وعدم التركيز في علم الإدارة والقانون الإداري التي دفعت مشاركة مؤسسات أخرى غير الدولة كالجماعات الترابية في إنتاج سياسات عمومية في حدودها المجالي.

 بعد ذلك عرف مفهوم السياسات العمومية تطورا مرتبطا بحقل آخر غير حقل علم الادارة وهو حقل علم الاجتماع السياسي المتمثل في ظهور فاعل أساسي وهو المجتمع المدني بممارسة أدوار مختلفة متمثلة في المشاركة في إعداد السياسات العمومية[2]

إن كل سياسات عمومية تأخذ في واقع الأمر شكل قطاع للتدخل والذي يتماثل مع نوع من التقطيع الخاص للمجتمع ليمثل موضوعا للفعل العمومي.

وهكذا فإذا كانت المجتمعات التقليدية مهددة بالانفجار والتفكك، فإن المجتمعات القطاعية مهددة بالإقصاء وغياب الاندماج إذا لم تتمكن من تلقاء نفسها من إيجاد الوسائل والإمكانيات التي تؤهلها لتدبير المنافسات القوية فيما بين القطاعات، هذه الوسائل والإمكانيات التي يتم اللجوء إليها هي السياسات العمومية.

نشأة السياسات العمومية الاجتماعية

إن المجتمعات التي سارت في مسار تطورها الاجتماعي والسياسي نحو بناء الدولة الوطنية، وانتصر فيها النظام الاقتصادي القائم على نظام السوق، بما يحمله من ازمات في اشكال مختلفة، تعيش مرحلة انتهاء الدورة الأولى لبناء الدولة والدخول في مرحلة أخرى جديدة، الشيء الذي يقتضي وضع اليات وسياسات جديدة لمواجهة المرحلة الجديد وتنظيمها على اسس تساعد على خلق الانسجام داخل المجتمع ووضع حلول لمخلفات الطور الثاني من حياة الدولة لهذا فالسياسات العمومية هي استجابة لراهنية التحولات التي تشهدها الدولة.

ف "كارل بولنيي Karl Polanyi" يتحدث عن آثار التصدع التي أحدثها توسع اقتصاد السوق والتصنيع على المجتمع. ولهذا السبب كان موضوع السياسات العمومية في شكلها الأول، يتمحور حول المسألة الاجتماعية.

فالسياسات العمومية لم يكن لها معنى حقيقي في المجتمعات المحلية، وهذا لأن مشكل الفقراء والمحتاجين كان مدمج في إطار علاقات القرب والجوار، أي أنه يتم معالجته محليا عبر آلية الصدقة والمساعدة.

 لكن مع ظهور نظام الأجر ستتطور أشكال جديدة للتضامن والتي ستفضي في مرحلة معينة إلى ما نطلق عليه الدولة التدخلية أو الدولة الحامية، التي ارتبطت بالتوسع في مفهوم الحاجات العامة والحاجات الاجتماعية. فالدولة بناء على هذا المعطي الجديد لم تعد تقتصر في دورها على توفير الأمن في الداخل والخارج وضمان استقرار الإطار القانوني للنشاط الاقتصادي، بل أصبحت الدولة مسؤولة أيضا عن توفير قدر من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين وضمان تحقيق درجة من العدالة والمساواة بينهم. بمعنى أن الدولة أضحت مسؤولة أيضا عن توفير مستوی معقول من التعليم الإلزامي، فضلا عن حماية مستوى التعليم الجامعي ورعاية  البحث العلمي، والصحة العامة والخدمات الطبية، زيادة على وسائل  لتسهيل عملية التواصل والاندماج في المحيط الاقتصادي والاجتماعي لكل الأفراد.

إن الجانب الاجتماعي إذا، سيتطور كقطاع خاص وسيشكل تبوعا للسياسات العمومية. هذا ويجب أن نشير كذلك إلى أن سياسات عمومية أخرى ستبدأ بالظهور خلال نفس المرحلة من أجل تنظيم وتطوير بعض القطاعات الأخرى العمومية.

لكن في أحيان أخرى قد تكون السياسات المتبعة هي التي تخلق المشكل بالنسبة للقطاع الذي تتدخل فيه، وأحسن نموذج هنا هو السياسات الاجتماعية التي يتم اللجوء إليها غالبا بهدف الحؤول دون سقوط شريحة معينة من الناس الذين تعرضوا لبعض المشاكل الخاصة، من الإقصاء الاجتماعي بشكل دائم. فالتصدي لكل أشكال الإقصاء التي تمس سواء (العمل، الصحة، التمكين من الحقوق، عبر التربية والتعليم، والسكن) هو الذي يمثل الجانب الأكبر في غالبية السياسات العمومية في المجال الاجتماعي.[3]



[1]الدكتور علي الحنودي أستاذ القانون العام دراسة السياسات العمومية، الطبعة 1437-2016

[2] موقع إلكتروني (الموسوعة السياسية)

[3]الدكتور علي الحنودي أستاذ القانون العام دراسة السياسات العمومية، الطبعة 1437-2016


إرسال تعليق

شاركنا رأيك في الموضوع

أحدث أقدم