رغم العديد من الترسانات القانونية والآليات الضبطية، لمكافحة السلوك المخالف للقانون، والمسيء لحقوق الإنسان والمضاد للقيم ولطموحات الأفراد والجماعات والمجتمعات في التقدم والتنمية، مازلنا داخل العالم المعاصر نعاني من عدة اضطرابات في حياتنا اليومية باختلاف مراحل أعمارنا، تبدو في صعوبات قد لا يدركها المرء نفسه، كما يستعصى إدراكها من قبل القيمين على تربيته أو تنشئته إلا عندما تبدو في سلوك مضطرب يتعارض مع المعايير والقيم الاجتماعية، فتتم مواجهتها بالجزاءات التي تحددها الجماعة لمعاقبة ذلك السلوك، وهنا تنتهي المسألة، خاصة عندما ينحصر الجزاء في تحقيق قدر من الإيلام النفسي والجسدي والمادي، ولا يستثمر في فتح فرص للمستهدف منه للتحاور مع ذاته وتمكنه من إدراكها والمصالحة معها، كمدخل للعلاج والتأهيل والإدماج بالتركيز على مقاربات تكاملية.
وفي هذا المداخلة المتواضعة نتطلع إلى استعراض ما تم التوصل إليه في رصد ومعالجة السلوك العدواني عامة والتصرف العنيف بالخصوص، انطلاقا من بعض أعمالنا الميدانية كمربين وكآباء وباحثين بالأساس. فما هو السلوك العدواني؟ وماهي أسسه النفسية؟ وماهي المقاربات التي يجب الاستعانة بها في تفسيره؟ ماهو واقع السلوك العدواني في المدارس؟ وماهي سماته وأسبابه؟ وماهي الأساليب المساعدة على معالجته؟ وماذا نعني بالعنف؟ وماهي أصنافه ومظاهره؟ وماهي أسباب وعوامل تكوينه لدى الشخص؟ وماهي الآثار التي يخلفها على الفرد في مرحلة الطفولة؟ وكيف نعالج العنف؟
أولا: السلوك العدواني
1 ـ تعريف السلوك العدواني:
هناك عدة اجتهادات بشأن تعريف السلوك العدواني،
منها من تعتبره استجابة انفعالية متعلمة تتحول مع النمو لدى الفرد، وخاصة لدى
الطفل منذ السنة الثانية إلى عدوان وظيفي لارتباطها ارتباطا شرطيا بإشباع الحاجات (سيزار،Sezar). وهناك من يعزوه إلى حالة عدم ملائمة
الخبرات السابقة للفرد مع الخبرات والحوادث الحالية، وإذا دامت هذه الحالة يتكون
لدى الفرد إحباط ينتج عنه من جرائه سلوك عدواني من شأنه أن يحدث تغيرات في الواقع
حتى تصبح هذه التغيرات ملائمة مع للخبرات والمفاهيم لدى الفرد كيلي، Kelley. وفي اجتهاد آخر يتبين أن العدوان سلوك ينتج عنه إيذاء لشخص آخر
أو إتلاف لشيء ما، ولذلك فالسلوك التخريبي هو شكل من أشكال العدوان الموجه نحو
الأشخاص أو نحو الأشياء فيشباخ،Feshbach. وهناك
من يرى في العدوان ذلك السلوك المتخلف لنتائج تخريبية أو مكروهة الرامي إلى
السيطرة من خلال القوة الجسدية أو اللفظية على الآخرين، وهذا السلوك يعتبر من
الناحية الاجتماعية عدوانيا. (البيرت باندورا)، (Banadura.
لذلك فهو سلوك يبتغي به صاحبه التنفيس الانفعالي
المعبر عن إدراكات مشوهة لذاته وللحياة والواقع، كما أنه إسقاط لما يعانيه الفرد
من أزمات نفسية حادة كثيرا ما نجد الأطفال والناشئين يملون إليها بغرض التغريب
والاعتداء على الذات أو على الغير، داخل البيت أو المدرسة أو الشارع..، وفي ظل هذه
المحاولات الراصدة للسلوك العدواني تأتي محاولة تعريف العنف الذي يعني ذلك التصرف
الفردي أو الجماعي الممارس عند إخفاق الذهن الإنساني في القدرة على الإقناع
والاقتناع، فيلجأ الفرد من أجل تأكيد وجوده من خلال هذا السلوك.
فالعنف ضغط جسمي أو معنوي ذو طابع فردي أو جماعي،
وهو الاستخدام المستند للقوة أو للسلطة أو التهديد بذلك ضد الذات أو ضد شخص أو عدة
أشخاص، وفي حق المجتمع برمته، ينتج عنه أدى أو وفاة أو إضرار نفيسة أو اضطراب في
النمو أو حرمان عاطفي. وعليه فالعنف هو نمط من سلوك عدواني متطرف، قد يكون ظاهرا
أو مقنعا، وقد يبدو في كل نشاط هدام يقوم به الفرد لإلحاق الأذى بالآخرين، سواء عن
طريق الاستهزاء والسخرية والهجاء أو من خلال الأذى والإيلام الجسدي والحرمان العاطفي
أو المادي، وهي تصرفات نمارسها نحن كوالدين أو أساتذة ومربين على الأجيال الصاعدة
بحسن نية، مما يسقطنا في حدود تشكيلها ولا يساعدنا على تكوينها بالمناهج والبرامج
التي تؤهلها لقيادة الحاضر والمستقبل بصحة نفسية قوية ومتحضرة.
بصفة عامة يمكن القول )مؤقتا( بأن العنف ممارسة
عدوانية توظف القوة والإكراه بغرض التدمير والإضرار بكافة الأصناف، وضد كل الأشخاص
والجهات والمجالات. وبالعودة إلى الأسس النفسية للسلوك العدوان والعنف، يتبين
بأنها تصرفات بشرية محكومة بنمطين من الدوافع التي نوجهها على نحو محدد من اجل
إشباع حاجة معينة أو تحقيق هدف مرسوم:
• الدوافع الأولية التي تتعلق بالبقاء وتضم دوافع
حفظ الذات، وهي دوافع فسيولوجية ترتبط بالحاجات الجسدية، ودوافع حفظ النوع
المتمثلة بدافعي الجنس والأمومة.
• دوافع ثانوية تكتسب من خلال عملية التنشئة
الاجتماعية للفرد عن طريق التعلم والمعرفة ومن بينها دوافع الكينونة ودوافع التملك
والسيطرة والتجمع.
2 ـ دوافع السلوك العدواني
كثيرا ما ترتبط هذه الدوافع بصورة عضوية وأساسية
بانفعالات الغضب والخوف والكره والحسد والخجل والإعجاب بالنفس وغيرها، فقد تحدث في
الجسم حالة من التوتر والاضطراب، وتتزايد حدة كلما اشتد الدافع ثم اشبع أو أعيق عن
الإشباع، فقد تكون قدرات الفرد وعاداته المألوفة غير مواتية لإشباع حاجاته وتلبية
رغباته ودوافعه لأسباب ذاتية ناتجة عن عوائق شخصية كالعاهات والاضطرابات النفسية
التي تؤثر على قدراته. أو خارجية أفرزتها ظروف بيئية كالعوامل التربوية والثقافية
والسوسيوتنموية.
فدافع السيطرة عند الفرد مثلا يتطور ليصبح ميولا
عدوانيا عنيفا مجموعة من المراحل منها:
- الحرمان أو النقص في الرعاية النفسية الاجتماعية التي نحتاج إليها كبشر من المراحل من المراحل الجنينية وإلى مغادرتنا إلى الدار الآخرة، مهما كانت أجناسنا واعتقاداتنا ومواقعنا الاجتماعية والسياسية، وبغض النظر على أحوالنا الاقتصادية والأسرية، وإمكانياتنا المعرفية، فكلنا في حاجة لهذا الرعاية كحق أصيل من حقوق الإنسان.
- الحرمان من الدفء الأسري أو نقصانه جراء الإهمال أو الترك أو الطلاق، فيصبح الطفل عدوانيا جراء فقدانه رعاية الأب وعطفه أو نتيجة مشاهدته أشكال النزاع بين الوالدين. كما يصبح الطفل مفرط الحركة إلى حد بجعله مصدر إزعاج سلوكي وهو في سن الثالثة. وقد يتعرض الطفل في هذه المرحلة إلى صورة شتى من التعسف والإيذاء الجسدي وربما يصل إلى الاعتداء الجنسي. وهذا يدعونا إلى وجوب العناية النفسية بمؤسسة الأسرة من حيث الشكل والتنشئة والأدوار والمقومات ونظام التواصل.
- يتحول دافع السيطرة لدى الطفل إلى سلوك عدواني عنيف وبروز الرغبة في الانضمام إلى زمرة تلبي حاجاته إلى الانتماء وتكوين هوية وتشكيل ثقافة فرعية خاصة. كما يبدو في الواقع النفسي والسوسيوثقافي لأطفال الشوارع ونزلاء الشوارع.
- تامين الحاجة إلى الانتماء للجماعة خارج الأسرة واعتبارها من مراجعة الأولية البديلة للأسرة قد يسهم في انحراف الطفل وتكوين نزعة العدوانية لديه ضد الأسرة وهنا نحتاج إلى عمل جدي يمكن الآباء والأمهات وكل القيمين على العملية التربوية على تنمية العلاقات السوية والجيدة بالآخرين أساسها قيم التعاون والصداقة بدل السيطرة والتنافس والتحقير والنبذ والمقارنة.
- يقترف الأطفال بعض التصرفات العدوانية المتسمة بالعنف البسيط التي قد تتحول إلى مخالفات أو جنح أو جنايات وتتحول معها زمرة الرفاق إلى مجموعة لممارسة السلوك الإجرامي.
هذه المراحل تحول السلوك العدواني والميولات
العنيفة إلى سمات تصطبغ بها شخصية الطفل.
وفي سياق الحديث عن السلوك العدواني والعنف يتبين
بأنه من الواجب التنبيه بأن انفعال الغضب قد يعتبر ايجابيا إذا كان الأمر يتعلق
بتنمية الذات أو الحفاظ على الممتلكات أو الكينونة داخل العلاقات الإنتاجية، فهو يمنح
للفرد طاقة كبيرة تساعده على القيام بجهود عضلية ونفسية كبيرة، وتحقيق مجموعة من
الانجازات الجيدة. لكن الغضب الذي يظهر كثيرا بشكل مضطرب يتجاوز الحد المقبول
وخاصة في مواقف عادية لا تبرر وجوده وفي أحوال يصعب التحكم فيها فينجم عنه عدة
مساوئ تخلف أضرارا بليغة على الشخصية الفرد.
وانفعال الغضب قابل للتحويل، فغضب الطفل من أبوين
قد يدفع به نحو الانتقام من لعبه أو احد إخوته أو رفاقه، أو الاعتداء على حيوان
أليف، ذلك أن الطفل لا يستطيع أن يوجه غضبه نحو أبويه، ويبدو حينئذ عدوانيا ميالا
للعنف في تعامله مع الآخرين، والشعور الطفل بالتهديد المحدق لمكافحته الاجتماعية
ولأهدافه. وكذلك الخوف من إظهار رغباته المكبوتة، والخوف من الإحساس بالذنب أو من
عقاب متوقع، والتعرض لخبرات مؤلمة متشابهة مع خبرات سابقة تعرض لها بجعله في حالة
قلق، تكون مصحوبة عادة ببعض الأعراض الجسمية تصبب العرق باستمرار واضطرابات
الأمعاء والمعدة والصداع وسرعة الخفقان القلب وبرودة الأطراف، فضلا عن الأرق
والضيق والاكتئاب وعدم التركيز الذهني.
وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى كون القلق من أحد
وأعقد الأمراض التي تعانيها الإنسانية خاصة خلال مطلع القرن الواحد والعشرين، فهو
السبب المباشر لحالات الميل إلى العنف والى كل السلوك العدواني. والقلق ينتج لدى
الفرد منذ مرحلة انتقاله من الرحم البيولوجي إلى الرحم الاجتماعي، وهو أمر يتم
التخفيف عنه ومحاصرته من خلال الرعاية النفسية الاجتماعية الجيدة، والمتناسبة مع
شخصية الفرد. أما الصنف الثاني من القلق فهو قلق بموضوع وينتج عن الإحباط والتعرق
والتهديد الجسدي أو التعرض لفقدان التقدير...، وهذه الوضعية المضطربة المتمثلة في
القلق كثيرا ما يتوافق معها الأفراد بواسطة آليات دفاعية مباشرة تعتمد العنف من
اجل تأكيد الوجود أو أي سلوك عدواني آخر، أو من خلال الانسحاب عن الذات عبر آليات
دفاعية أخرى تتمثل في الإدمان على المخدرات والخمور والتشرد والهروب من البيت
والمدرسة، والخصومة مع التعلم...
3 ـ مظاهر العنف
يتجلى لدى الفرد في مرحلة الطفولة والمراهقة والشباب أربعة مظاهر للعنف يوظف كل واحد منها لتحقيق غرض معين وهي:
1. الميول العدواني في مرحلة الطفولة.
2. الانضمام إلى الزمر أو العصابات
3. السرقة
4. التحرش الجنسي
مقتطف من ورقة علمية محكمة، لصاحبها الأستاذ عبد الله أبو أياد العلوي
التتمة: من هنا
·