إن مونديال قطر ساهم بشكل كبير في نشر العديد من القيم الاجتماعية التي تقوم على تقوية الرابط الاجتماعي وتعزيز روح الانتماء للوطن والأمة وترسيخ الهوية الجماعية والتعاون والعمل الجماعي والتفاني في العمل والتضامن والتلاحم والتسامح والروح الرياضية، واحترام الآخر، ونبذ العنف، والتعريف بالعادات والتقاليد، وهي قيم تعزز شخصية الأفراد وتساهم في تحقيق الاندماج والنجاح والارتقاء المجتمعي.
ففي كرة القدم هناك تفاعلات اجتماعية كثيرة أثناء الممارسة بحيث يتحدد تفاعل اللاعب مع الآخرين وكذا تفاعل المشجع معباقي الجماهير عبر مجموعة من القيم التي ترتكز حول الالتزام والواجب والمسؤولية والتضحية إزاء الفريق الذي ينتمي إليه. ولتحقيق الفوز والتفوق فمن الضروري العمل على التوافق في القيم المتماثلة والسائدة داخل الفريق وحث الفرد على تقديم الأولوية لقيم الجماعة، لأن تقارب القيم بين اللاعبين “النية، البركة، رضى الوالدين، الثقة، الندية، الجدية والمثابرة، دعم الكفاءات الوطنية، حب الوطن…” يسهل عملية ضبط سلوكهم ويعززالعلاقات بينهم، بينما يؤدي تصادم وتباين القيم بين اللاعبين وكذلك بين المشجعين إلى زعزعة التماسك والانسجام والتناغم داخل هذه المجموعات الرياضية.
لقد شكل الإنجاز الذي حققه المنتخب المغربي بتأهله على التوالي للدور الثمن ثم الدور النصف نهائي، ليحصل في النهاية على المرتبة الرابعة، فخرا للمجتمع العربي والإسلامي وحدثا تاريخيا بامتياز، كأول منتخب عربي وإفريقي يحقق هذا الإنجاز الكبير في بطولة كأس العالم، تحركت على إثره مشاعر وقلوب الملايين تعبيرا عن انتصار يمثل كل العرب والمسلمين والأفارقة، وبيّن مدى تعطش هذه الأوطان للفوز والظفر والانتصارات التي تذكرهم بتاريخهم وأمجادهم. من هنا أصبحت كرة القدم مجالا خصبا ورحبا يتسع للجميع بمختلف الأطياف والمشارب للتعبير عن حب ونصرة الوطن ووضعه فوق كل اعتبار والرغبة في تبوأه مرتبة رفيعة بين الأمم والحضارات.
أظهر هذا الانجاز لمنتخب أسود الأطلس -الذي ساهم فيه بشكل كبير جدارة واستحقاق جميع اللاعبين وكذا ذكاء وحنكة مدربه المغربي “وليد الركراكي” واحترافية طاقمه التقني- حماسة الوطن المغربي وشغفه بالكرة المستديرة باختلاف أعماره وأطيافه وفئاته الاجتماعية التي لم تستثني أحد، حتى النساء اللواتي كن يعاتبن أزواجهن على تتبع مباريات كرة القدم، خرجن مع أطفالهن لمساندة المنتخب والاحتفال بفوزه في مختلف المدن والقرى برفع أصوات الزغاريد و الطعاريج و البنادير. هذا الانتصار أظهر أيضا تلاحم أبناء الشعب المغربي وتوحد مشاعرهم ومواقفهم والاعتزاز بثقافتهم والافتخار بتقاليدهم ولغتهم ويقظتهم في دفاعهم عن قيمهم وأهدافهم وقضاياهم العادلة وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، وهو ما عبّرت عنه الجماهير المغربية برفع أعلام الراية المغربية والفلسطينية وارتداء قمصان المنتخب الوطني وترديد الشعارات والاهازيج في الشوارع والطرقات والأسواق والمقاهي والساحات العمومية بعفويتهم وفرحهم العارم، وكأنه حلم ظل يحمله أبناء الشعب المغربي منذ زمن بعيد.
كما أبانت قطر بتنظيمها لكأس العالم بمواصفات استثنائية كأول تجربة عربية في تاريخ هذه البطولة، أنها بإرادتها وعزيمتها قادرة على رفع التحدي وإيقاظ الحس العربي المشترك وخلق أجواء رائعة، لإنجاح تظاهرة بهذا الحجم الكوني في مناخ أخلاقي وإنساني يليق بأمة ذات أمجاد وتاريخ عريق.
إن مثل هذه التظاهرات الرياضية العالمية أوضحت أن النهوض الحضاري للأمم والشعوب يمكنه أن يتسع ليشمل نواحي متعددة؛سياسية، اقتصادية، اجتماعية، ثقافية وفنية، وهو من أهم الدروس والعبر المستقاة من هذا التجمع الإنساني، الذي يترجم رسالة واضحة مفادها أن ما يجمع الإنسانية أكثر مما يفرقها،وأن العالم كلما تأزم سيظل في حاجة إلى العرب وثقافتهم ليطلقوا نسمة حب ببعد أخلاقي وحضاري تجسد قيم العروبة والإسلام.