إن التربية بشكل عام هي عملية ضرورية للإنسان في حياته الخاصة والعامة، باعتبارها سلسلة وشبكة متكاملة من القيم والأفعال والسلوكات الإيجابية، التي يُحدثها الكبار في الصغار بهدف تيسير وتسهيل إدماجهم في المجتمع، ومساعدتهم على تغيير أوضاعهم وتحسين أفعالهم قصد التمكن من مهارات الحياة، وكونها سبيلا يُيسر لهم التكيف مع محيطهم، وتحقيق الانسجام والتناغم مع بيئتهم التي من مواصفاتها وخصائصها وأسسها التغير السريع والتحول المستمر.[1]
لا بد من الإشارة إلى أن مفهوم التربية من أكثر المصطلحات تداولا
واستخداما وشيوعا بين الباحثين والدارسين والمتدخلين في العملية التربوية، لكن مع
هذا فهو من أكثر المفاهيم استشكالا في التحديد والمقاربة والبيان والتعيين، بل إن
أكبر إشكال ابستمولوجي في التربية يكمن أساسا في إشكالية التعريف والتحديد، بحيث
اختلفت التحديدات، وتعددت التعريفات وتباينت المقاربات لمصطلح التربية تبعا
لمرجعية المدارس التربوية والاجتماعية والإنسانية في اختياراتها لمقاربة الظاهرة
التربوية، بحكم الامتداد التاريخي الطويل الذي مرت منه التربية من جهة، وبحكم
تداخل عدد من العلوم وتواصلها مع هذا العلم الجديد المسمى بعلم التربية[2] من جهة
أخرى.
وانطلاقا من هذا السياق وعملا بهذا المبدأ، نقول في البداية إن تحديد
المفاهيم والمصطلحات يُعد ضرورة منهجية في أي يحث علمي، لأن المفاهيم والمصطلحات
هي مفاتيح العلوم منها تتشكل الأدوات المعرفية التي بها يتم الولوج إلى المعارف
والحقائق العلمية.[3]
وتعرف التربية لغة في معجم لسان العرب على أنها ربا يربو أي
نما وزاد، كما ذكرت في القرآن الكريم في قوله تعالى: (فَإِذَا أَنزَلْنَا
عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ)
[الحج: 5]، بمعنى نمت وازدادت. [4]
وتناولت السوسيولوجيا التربية من زوايا نظر متعددة وباعتماد نظريات
ومقاربات مختلفة سنعرض في هذا الإطار أهمها.
بداية، تقوم المقاربة الوظيفية على تشبيه المجتمع بالكائن العضوي الحي ، أي أن المجتمع يتكون من مجموعة من العناصر والبنيات والأنظمة، وكل عنصر من هذه العناصر يؤدي وظيفة ما داخل هذا الجهاز المجتمعي، وبهذا يترابط كل عنصر في النسق بوظيفة ما، ومن هنا فالمجتمع نظام متكامل ومترابط ومتماسك، يهدف إلى تحقيق التوازن والحفاظ على المكتسبات المجتمعية، فالدين والتربية مثلا يقومان بالحفاظ على تماسك المجتمع. [5]
يمثل هذه النظرية كل من الفرنسي إيميل دور كهايم، والأمريكان تلكوت بارسونز وروبرت ميرتون، وقد كان لها إشعاع كبير في سنوات الخمسين من القرن الماضي ، هذه المقاربة تعتبر أن المجتمع نظاما معقدا تعمل شتى أجزائه لتحقيق الاستقرار والتضامن بين مكوناته، ولدراسة الوظيفية التي تؤديها إحدى الممارسات أو المؤسسات الاجتماعية فإن علينا أن نحلل ما تقدمه المساهمة أو الممارسة لضمان ديمومة المجتمع خاصة وأن الوظيفيون يرون أن أجزاء المجتمع وأطرافه تعمل سويا وبصورة متناسقة تماما كما تعمل أعضاء الجسم البشري ـ لما فيه نفع المجتمع بمجمله.[6]
ومن أهم المبادئ التي تقوم عليها النظرية الوظيفية نذكر: الوظيفة،
البناء الاجتماعي، المشابهة العضوية، النسق، الدور والمكانة الاجتماعية، المتطلبات
الوظيفية، البدائل الوظيفية، الوظائف الظاهرة والوظائف الكامنة، الجزء في خدمة
الكل، التضامن العضوي، المحافظة والاستقرار، النظام والتوازن، الأدوار الحيوية،
الاتساق والانسجام، التماسك الاجتماعي ضد ومقابل مبدأ التجزئة والصراع، بناء على
هذه المبادئ تشدد المدرسة الوظيفية على أهمية الاجتماع الأخلاقي في الحفاظ على
النظام والاستقرار في المجتمع، هذا الإجماع الأخلاقي يتجلى عندما يشترك أعلب الناس
في المجتمع في القيم نفسها، ويذهب الوظيفيون إلى اعتبار أن النظام والتوازن
يمثلان الحالة الاعتيادية للمجتمع، يرتكز هذا التوازن الاجتماعي على وجود إجماع
أخلاقي بين أعضاء المجتمع.[7]
صحيح أن التفكير الوظيفي احتل مكانة الصدارة بين التقاليد النظرية في
علم الاجتماع لوقت طويل، خاصة بالولايات المتحدة الأمريكية، وكان تلكوت بارسونز
وروبرت ميرتون قد تشبع كلاهما بأفكار إيميل دور كهايم، مما دفعهم إلى الدعوة إلى
هذا التيار والدفاع عنه، إلا أن الشعبية التي حظيت بها هذه المدرسة تراجعت
في الآونة الأخيرة، بعد أن اتضح أنها تشوبها اختلالات وبعض أوجه القصور والثغرات،
ومن الانتقادات الموجهة لها أنها تغالي في التشديد على العوامل المؤدية إلى
التماسك الاجتماعي على حساب العوامل الأخرى التي تقضي إلى التجزئة والصراع،
والتركيز على نواحي الاستقرار والنظام يعني التقليل من أهمية التقسيمات والتفاوتات
التي تنشأ في المجتمع على أساس الطبقة والعرق والجنس، كما وجهت له انتقادات بسبب
كونه تيار إيديولوجي محافظ ، يهدف إلى خلق مجتمع منظم متناسق ومتماسك ومستقر
اجتماعيا، يخلو من الصراع والتناقضات الجدلية لذا يعتبر النظام أو التوازن أو
الاستقرار الهدف المنشود الذي يسعى إليه هذا الاتجاه السوسيولوجي.[8]
إذن الوظيفية تنظر إلى المجتمع باعتباره نسقا اجتماعيا واحدا كل عنصر
فيه يؤدي وظيفة مجددة ، وتؤكد على ضرورة تكامل الأجزاء في إطار الكل، وعليه فإن
هذه المقاربة ترى المجتمع باعتباره نسقا اجتماعيا متكاملا يقوم كل عنصر من عناصره
بوظيفة معينة للحفاظ على توازن النسق واستقراره وتوازن المجتمع واستمراره، ومعالجة
الخلل دون المساس بالنظام الاجتماعي القائم من خلال الاتفاق على معايير التنظيم
الاجتماعي، التي يجب الخضوع لها والاشتراك في قيم الحياة الاجتماعية التي يجب
الالتزام بها من أجل صيانة المجتمع وترسيخ استقراره واستمراره، لذلك هناك من صنف
المدرسة ضمن الاتجاهات المحافظة.[9]
وفي إطار الوظيفية تم الاهتمام بدراسة العلاقات المتبادلة داخل
المجتمع كبناء والتربية كنظام، والمدرسة كمؤسسة اجتماعية ترتبط بالمؤسسات
الاجتماعية الأخرى، وتتفاعل معها في تحديد وظائفها ، وتحقيق أهدافها ، وعليه تم
التركيز على العلاقة بين المجتمع والتربية والتعليم والاقتصاد من أجل تكييف عناصر
النظام الاجتماعي ووظائفه، حتى يستمر في البقاء والعمل في انتظام، فتم الربط بيت
التربية والبنية الاجتماعية من خلال انتقاء وتوزيع وتدريب وإعداد قوى العمل
اللازمة لسوق العمل ، ويرصد العمل كذلك على كل أنواع الخلل التي تعوق نظام التعليم
عن تأدية وظيفته في تدريب الأفراد وتصنيفهم وتشكيلهم في مكانتهم الاجتماعية التي
يستحقونها طبقا لقدراتهم العقلية وانجازاتهم الدراسية.[10]
انطلاقا من المقاربة الوظيفية ثم الاهتمام بمعالجة الخلل في النظام
التعليمي من خلال التركيز على دراسة النظام التعليمي ذاته، أو في علاقة بالنظم
الفرعية الأخرى في المجتمع دون أن تشير إلى الخلل القائم في النظام الاجتماعي
العام.
نخلص إلى أن الاتجاه الوظيفي هو تيار سوسيولوجي يركز على البيئة
والوظيفة، ومن تم فهو تصور بنيوي نسقي يربط كل عنصر في المجتمع بوظيفة ما ، ويكون
الهدف من ذلك هو تحقيق النظام والاستقرار والتوازن والتضامن ،خاصة وأن هذا الاتجاه
يغلب عليه الطابع الإيديولوجي المحافظ.
وفي المجال التربوي تقوم هذه المقاربة على فكرة الفوارق الوراثية،
بمعنى أن المدرسة توحد جميع المتمدرسين في تمثل المعايير الأخلاقية والاجتماعية
بغية التأقلم مع المجتمع ، وفي نفس الوقت تفرق المدرسة بين هؤلاء تقويما وانتقاء
واصطفاء ، فمن يمتلك القدرات الوراثية والملكات الفطرية، كالذكاء والنجابة
والقدرات التعلمية الكفائية عليها، ينتقى لتولية المناصب المتبارى عليها، ولكن ليس
اتكاء على المحسوبية والأصل والنسب، بل اعتمادا على المعايير العلمية الموضوعية،
والانجازات التقويمية المضبوطة. [11]
من جهة أخرى ، يرى إيميل دور كهايم أن وظيفة المؤسسة التعليمية
(المدرسة) تقوم على وظيفتي الحفاظية والمحافظة، والتشديد على جدلية الماضي
والحاضر، بمعنى أن المدرسة وسيلة للتطبيع وإعادة إدماج المتعلم داخل المجتمع، أي
تقوم المدرسة بتكييف المتعلم، وجعله قادرا على الاندماج في حضن المجتمع، إذن تقوم
المدرسة بوظيفة المحافظة والتطبيع والتنشئة الاجتماعية، ونقل القيم من جيل إلى آخر
عبر المؤسسة التعليمية، يعني هذا أن المدرسة وسيلة للمحافظة على الإرث اللغوي
والديني والثقافي والحضاري، ووسيلة لتحقيق الانسجام والتكيف مع المجتمع، أي تحويل
كائن غير اجتماعي إلى إنسان اجتماعي يشارك في بناء العادات نفسها التي توجد لدى
المجتمع .وهذا يؤدي إلى أن تكون المدرسة مؤسسة توحيد وانتقاء واختيار ويعني هذا أن
المدرسة توحد عبر التكييف الاجتماعي، ولكنها تميز بين الناس عبر الانتقاء
والاصطفاء ومن ثم فالوظيفة الأولى للمدرسة تتمثل في زرع الانضباط المؤسساتي
والمجتمعي.[12]
يرى مارسيل بوستيك أن كل نظام مدرسي يتسم بسمة المجتمع الذي أنشأه،
وهو منظم حسب مفهوم التصور المعطى للحياة الاجتماعية، ولدواليب الحياة الاقتصادية،
والروابط الاجتماعية التي تحرك هذا المجتمع، لهذا حلل علماء الاجتماع بصورة مباشرة
أو غير مباشرة الصلات بين العلاقة التربوية والنظام الاجتماعي نظرا لأنهم يعدون
التربية بمثابة مؤسسة، مهمتها تكييف الشباب مع حياة الجماعة بواسطة إجراءات معقدة
الاستنباط.[13]
هذا يعني أن المدرسة حسب دور كهايم لا بد أن تقوم بدور عقلاني،
بتقديم المعارف والقيم والحفاظ على المجتمع ، والدفاع عن ثوابت النظمية والنسقية
والإيديولوجية، بصيغة اخرى إن النظام مطالب بعملية التطبيع والإعداد الاجتماعيين،
بتشريب الأجيال القادمة مجموعة من القيم والمعايير والعادات والتقاليد والأعراف،
بغية تأهيلهم للأدوار المنوطة بهم في المستقبل حسب حاجيات النظام الاجتماعي، ويعني
هذا أن تقوم المدرسة بوظيفة التنشئة الاجتماعية، وعملية التطبيع والحفاظ على القيم
الموروثة ، كما عنى هذه النظرية البنيوية الوظيفية بأدوار المدرسة أو المؤسسة
التعليمية داخل النسق الاجتماعي واستجلاء مختلف وظائفها الأساسية والثانوية قصد
الحفاظ على توازن المجتمع وتماسكه واستقراره. دون أن ننسى التركيز على شبكة
العلاقات والتفاعلات المباشرة وغير المباشرة، والأدوار والسلوكيات والتصرفات
الوظيفية قصد تحقيق مجتمع ثابت منظم ، أما إذا وقع اختلال وظيفي فلا بد من عمليات
التصحيح أو المعالجة أو المواجهة.
إن المقاربة البنائية الوظيفية، ورغم تعدد مداخلها فإن تحليلها
للظاهرة التربوية، لا يختلف عن تحليلها للظاهرة الاجتماعية ، فقد أضفت عليها طابع
الإلزام والإكراه الاجتماعي فهي تلغي إرادة الأفراد وبذلك فإن الأفراد ملزمون
بالانصياع إليها دون أي معارضة أو أي نقاش، وهذا ما من شأنه إحداث التوازن والهدوء
داخل المجتمع، فالأفراد أدوات غير قادرة على المساهمة في رسم معالم الظاهرة
التربوية في تصور دور كهايم لأن المجتمع هو المصدر الرئيس لها.[14]
إذن أعطت المقاربة التقليدية في علم اجتماع التربية مكانة مهمة
واعتبرتها أداة مهمة في المحافظة على توازن المجتمع واستقرار المجتمع ، كما أكد
دور كهايم على دور التربية في نقل القيم والمعايير الاجتماعية من خلال عملية
التنشئة الاجتماعية.
وترى المقاربة الصراعية أن المجتمع غير خاضع لمبدأ النظام والتوازن
والانسجام كما يعتقد الوظيفيون، بل قائم على الصراع والاختلاف والتوتر، ويقول
أنتوني غيدنز غي هذا الصدد في كتابه _علم الاجتماع_ ' يميل علماء الاجتماع الذين
يطبقون نظريات الصراع إلى التأكيد على أهمية البنى في المجتمع مثلما يفعل
الوظيفيون كما أنهم يطرحون نموذجا نظريا شاملا لتفسير عمل المجتمع، غير أن أصحاب
النظريات الصراعية يرفضون تأكيد الوظيفيين على الإجماع ويبرزون بدلا من ذلك أهمية
الخلاف والنزاع داخل المجتمع ، ويركزون بذلك على قضايا السلطة والتفاوت والنضال،
ويميل هؤلاء إلى أن المجتمع يتألف من مجموعات متميزة تسعى إلى تحقيق أهدافها
الخاصة، ووجود مصالح منفصلة يعني أن احتمال قيام الصراع بين هذه الجماعات يضل
قائما على الدوام، وأن بعضها قد ينتفع أكثر من غيره من استمرار الخلاف ، ويميل
الملتزمون بنظريات الصراع إلى دراسة مواطن التوتر بين المجموعات المسيطرة
والمستضعفة في المجتمع، ويسعون إلى فهم الكيفية التي تنشأ بها علاقات السيطرة
وتدوم.[15]
ويوجد ضمن أدبيات سوسيولوجيا التربية عدة أطروحات فيما يخص المقاربة
الصراعية ، فكل أطروحة حللت الظاهرة التربوية انطلاقا من المقاربة الصراعية،
وحاولت أن تبرز أدوات الصراع باعتبارها أدوات فاعلة في تحرك دواليب الظاهرة
التربوية.
لقد تناول بيير بورديو مفهوم إعادة الإنتاج بالتحليل والدراسة
والتقويم ، حينما ركز اهتمامه السوسيولوجي على النظام التربوي الفرنسي مع صديقه
جان كلود باسرون في كتابهما إعادة الإنتاج، منذ سنوات الستين من القرن الماضي، إذ
كانت هذه الفترة مرحلة التطور والازدهار العلمي والمنهجي لسوسيولوجيا التربية.
يمكن اعتبار أن بيير بورديو وكلود باسرون هما اللذان أعطيا ولادة
ثانية لسوسيولوجيا التربية وقد انطلقا من فرضية سوسيولوجية أساسية، تتمثل في كون
المتعلمين لا يملكون الحظوظ نفسها في تحقيق النجاح المدرسي، ويرجع هذا الاختلاف
إلى التراتبية الاجتماعية ،والتفاوت الطبقي ووجود فوارق فردية داخل الفصل الدراسي
نفسه، ومن ثم فقد قادت الأبحاث السوسيولوجية والإحصائية بورديو وباسرون إلى استنتاج
أساسي هو أن الثقافة التي يتلقاها المتعلم في المدرسة الرأسمالية ليست ثقافة
موضوعية أو نزيهة ومحايدة، بل هي ثقافة تعبر عن الهيمنة وعن الطبقة الحاكمة ، ومن
تم فليست التنشئة الاجتماعية تحريرا للمتعلم، بل إدماجا له في المجتمع في إطار
ثقافة التوافق والتطبع والانضباط المجتمعي، وبالتالي تعيد لنا المدرسة إنتاج
الطبقات الاجتماعية نفسها عن طريق الانتقاء والانتخاب، ومن ثم فهي مدرسة
اللامساواة الاجتماعية بامتياز. [16]
إن التلاميذ المنحدرون من العائلات الميسورة يتلقون من عائلاتهم حس
الاستثمار المربح وكذلك الأمثلة والنصائح التي تساعدهم، هؤلاء التلاميذ هم في
وضعية تسمح لهم بوضع استثماراتهم في أحسن وقت وأحسن الأمكنة أي أحسن التخصصات
وأحسن المؤسسات، بالمقابل فإن التلاميذ المنحدرون من عائلات محرومة وخصوصا أبناء
المهاجرون يضطرون منذ نهاية دراستهم الابتدائية إلى توكيل مصيرهم إلى تعليمات
المؤسسة المدرسية أو الصدفة لإيجاد طريقهم في عالم معقد أكثر فأكثر وهم كذلك محكوم
عليهم باستثمار رأسمالهم الثقافي الذي يضل مع ذلك محدود جدا.[17]
وهذا يعني أن السؤال الذي ركزت عليه سوسيولوجيا التربية، في سنوات
الستين هو سؤال اللامساواة المدرسية التي تعكس اللامساواة الطبقية، وتعكس مدى
اختلاف أبناء الطبقات العمالية عن أبناء الطبقات المحظوظة، واختلاف المستوى
التعليمي الطويل الذي يرتاده أبناء الطبقات المحظوظة، والتعليم القصير الذي يكون
من حظ الطبقات الدنيا، لا سيما أبناء الطبقات العمالية والمهاجرين على حد سواء.
يشير بيير بورديو إلى إمكانية معالجة اللامساواة وذلك من خلال تعليم
ديمقراطي حقيقي وبواسطة بيداغوجيا مغايرة والتي يمكن أن تبحث في تحييد بصفة منهجية
فعل الامتيازات الثقافية، بالإضافة إلى تنويع مناهج التدريس وذلك من خلال الطرائق
المسماة بالنشطة والتي ترسي بناء المعرفة على نشاطات المتعلم وخلق مناطق التربية
ذات الأولوية وذلك بإعطاء تلاميذ الأحياء المحرومة ظروفا حسنة للتعليم، بالموازاة
مع هذا، فإن البحث في علم اجتماع التربية تطور وذلك بتعدد الدراسات حول
مختلف عوامل النجاح والفشل المدرسي.[18]
من جهة أخرى يرى كولانز أن الأفراد لا يتم انتقاؤهم واصطفاؤهم على
أساس القدرات الذكائية والتقنية والمعارف التحصيلية ، بل على أساس الانتماء إلى
الجماعة المسيطرة ثقافيا بتمثل تصوراتها وإتباع قيمها، ومن ثم يكمن الصراع في ضغط
الجماعات الحاكمة على المشغلين بأن يعتمدوا على الشهادات في عمليات الانتقاء
والاصطفاء، علاوة على معايير التبعية الثقافية والحزبية والإيديولوجية، هذه
الأطروحة اعتمدت فقط على بعض المعطيات المرتبطة بسياسة الاختيار والانتقاء، لذا
يصعب تعميمها على جميع الأنظمة، وعلى الرغم من هذا القصور استطاعت أن تبين وجها من
وجوه مفارقات العلاقة بين التطور التربوي ومثيله الاجتماعي.[19]
أما رايمون بودون فيرفض تصورات المدرسة الوظيفية والمقاربة
الصراعية، على أساس أن المدرسة تعيد إنتاج الطبقات الاجتماعية نفسها، وأنها فضاء
للصراع بين الطبقة المهيمنة والطبقة الخاضعة، وينفي رايمون بودون أن تكون هناك
روابط قوية بين اللامساواة التعليمية اللامساواة الاجتماعية، بمعنى أن المجتمع ليس
هو السبب في هذه اللامساواة التربوية، بل يعود ذلك إلى اختيارات الأفراد أنفسهم،
وقناعاتهم الذاتية وقراراتهم الشخصية بناء على حسابات الأسر الخاضعة لمنطق الربح و
الخسارة ،وطموحاتها الواقعية ورغباتها المستقبلية.[20]
فبعد أن كان الحاصلون على الدبلومات والشهادات يحصلون على الوظائف
والمناصب المناسبة لهم، ازداد المتعلمون بكثرة، وكثرت الشهادات والدبلومات، وانحصر
سوق الشغل لذا أصبحت المدرسة لا توفر للجميع الفرص نفسها من الحظوظ
والامتيازات، وليس هذا عائد إلى أسباب خارجية مثل: الصراع الطبقي والاجتماعي
والثقافي، والهابتوس العائلي كما يقول أنصار المقاربة الصراعية، بل يعود إلى
اختيارات الأسرة ومنظورها إلى المدرسة من حيث الربح والخسارة، فهناك من الأبناء من
يرغب في وضع اجتماعي يشبه وضع آبائهم المهني، ولا يجدون حرجا في ذلك أو ظلما،
وهكذا فالبكالوريا بالنسبة لأبناء الطبقة العمالية تشكل فرصة لا تعوض من أجل تحقيق
أرباح اقتصادية، ولكن بالنسبة لأبناء الأطر العليا لا تعني تلك الفرصة ربحا حقيقا
لهم، إلا إذا استمروا في التعليم الجامعي الطويل، ويعني هذا اختلاف رغبات
الأفراد ومنظوراتهم إلى الشهادة أو الدبلوم، فأن تكون معلما بالنسبة لابن عمالي
ربح كبير وفرصة لا تعوض، ولكن بالنسبة لأبناء الأطر العليا فإن ذلك لا ينفعهم في
شيء، ويعود هذا كله إلى الرغبة في المدرسة، والإقبال عليها ويعني هذا اللامساواة
المدرسية راجعة إلى الرغبات الفردية، وليس إلى اختلاف الرأسمال الثقافي أو إلى
طبيعة الطبقة المهيمنة أو إلى قاعدة إنتاج الطبقات نفسها.[21]
يعتبر رايمون بودون إذن من أشهر ممثلي هذا الاتجاه في مجال تحليل
الاصطفاء المدرسي، فالتلميذ يقرر هنا بصورة واعية ما يترتب عليه في الشأن المدرسي،
ومن ثم يدرس الظروف والعوامل والمتغيرات المختلفة، ويقدر إمكانية المتابعة أو
أفضلية الترك والتخلي عن المدرسة.[22]
إذا كان أنصار المقاربة الصراعية قد أخذوا بالحتمية المجتمعية أو
الواقعية في تحديد مصير الفرد ومستقبله فإن رايمون بودون قد اخذ بنظرية الفعل، على
أساس أن الفرد حر في أفعاله واختياراته، ويعني هذا أن نظرية الفعل الاجتماعي ترى
أن الأفراد قادرون على صناعة مصيرهم المدرسي والمهني تأسيسا على مبادراتهم
وفعاليتهم الاجتماعية.
إذن فرايمون بودون يرى أن اللامساواة التربوية لا ترتبط باللامساواة
الاجتماعية والطبقية والثقافية، بل تعود إلى الاختيارات الحرة للأفراد ،وقراراتهم
الشخصية، وقناعاتهم الذاتية، وحساباتهم الخاصة التي يضعونها جيدا حين التعامل مع
المدرسة.
إذن كانت هذه أهم النظريات التي تطرقت للتربية بالتحليل والدراسة
وقدمت صورة واضحة عن التغيرات التي شهدتها وكيف تطرق إليها كل رائد على حدة.
بقلم: إيمان الرحموني
[1]دكتور محمد بنعمر ، مقدمات في مفهوم التربية ، بيداغوجيا ومفاهيم ،
2018 _ صفحة 2
[2]المرجع السابق _ بتصرف_
[3]المرجع السابق بتصرف.
[4]معجم لسان العرب _ القرآن الكريم
[5]خالد المير وآخرون _ أهمية سوسيولوجيا التربية ، سلسلة التكوين
التربوي ، العدد 3 مطبعة النجاح الجديدة ، المغرب ، 1995 صفحة 36
[6]عبد الكريم غريب ، سوسيولوجيا المدرسة ، منشورات عالم التربية ،
مطبعة النجاح الجديدة ط 1 المغرب 2009 صفحة 62
[7]أنتوني غيدنز ، علم الاجتماع ، ترجمة فايز الصياغ ، منشورات المنظمة
العربية للترجمة ، بيروت ، ط 1 لبنان 2005 ص 74
[8] أنتوني غيدنز _ علم الاجتماع _ المرجع السابق ص 75
[9] سمير نعيم أحمد – النظرية في علم الاجتماع _ دار المعرفة ط5
مصر _ 1985 ص 148
[10] أنتوني غيدنز _ المرجع السابق صفحة 76
[11] نيكولا تيماشيف نظرية علم الاجتماع
[12] أنتوني غيدنز _ علم الاجتماع _ مرجع سابق _ صفحة 101 _
[13] بوستيك مارسيل _ العلاقات التربوية ص 99
[14] المقاربة البنائية الوظيفية ، نظريات علم الاجتماع .
[15] أنتوني غيدنز _علم الاجتماع _ مرجع سابق _ ص 75 .
[16] خالد المير وآخرون _أهمية سوسيولوجيا التربية _ مرجع سابق صفحة 12
[17] عبد الكريم بزاز _ علم اجتماع بيير بورديو _ رسالة دكتوراه _ غير
منشورة جامعة قسطنطينية الجزائر _2007 ص99
[18] عبد الكريم بزاز _ علم اجتماع بيير بورديو مرجع سابق ص 177
[19] جميل حمداوي ، نظريات علم الاجتماع ص 149
[20] محمد محمد علي _ قراءة معاصرة لأعمال خمسة من أعلام علم الاجتماع
الغربي _ صفحة 188
[21] شبل بدران _ علم اجتماع التربية المعاصر _ ص 124
[22] المرجع السابق