يشكل موضوع الحريات العامة أحد القضايا الإنسانية الأكثر راهنية وتعقيد، نظراً لما يشوبها من تحديثات تبعاً للتغيرات والدينامية المستمرة التي يعرفها المجتمع، ولاشك أن هذا الموضوع (الحريات العامة) واقعٌ محط جدل محتدم لدى العديد من الباحثين أو حتى عند عامة الناس؛ لما له من ارتباط وصلة بحقوق الإنسان كأحد فروع علم الاجتماع، يدرس ماهية وطبيعة العلاقات القائمة بين الأشخاص وفق الكرامة الإنسانية، وهنا يكون الارتباط بين حقوق الإنسان والحريات العامة وثيق الصلة لا يحتمل الفصل والقطيعة بينهما؛ فالأولى أكثر اتساعا وشمولية من الثانية، فكل الحريات العامة تشكل حقوقا للإنسان وكل حقوق الإنسان ليست بالضرورة حريات عامة.
وكي نفهم بشكل أعمق وأدق الموضوع سنحاول الوقوف عند أهم الاتجاهات النظرية العامة للحيرات العامة، على اعتبار أن هذه النظريات والرؤى الفكرية شكلت القاعدة المجردة التي بناء عليها يتم التمتع بمختلف الحريات موضوع الدراسة، كما وأن هذه الاجتهادات ساهمت في منح القيمة الإنسانية العليا للإنسان رغم اختلاف وتنوع وتعدد الأسس والمرجعيات الفكرية والفلسفية التي قامت عليها.
الحريات العامة وفق النظرية الاشتراكية:
إن الحديث عن الحريات العامة وفق المذهب الاشتراكي لا يستقيم إلا إذا وقفنا عليها وفق النظرية الماركسية أولاً، حيث تعتبر النظرية الماركسية من ابرز الاتجاهات التاريخية الحديثة في تفسير نشأة الدولة وأساسها على أساس التطور التاريخي، "فهي عنده عبارة عن حدث تاريخي عارض جاء نتيجة انقسام الجماعة
إلى طبقات متصارعة واحتكار البعض منها ملكية الإنتاج والتي استطاعت بواسطتها استغلال
سائر الطبقات في المجتمع وتسخيرها لخدمتها، لذا فإن ظهور الدولة ووجودها مرتبط
بظاهرة الصراع الطبقي التي ستتمر ظهور جماعة سياسية متطورة، تجمعها الرغبة في بلوغ
غايات مشتركة وإحساس عام بضرورة العيش سوية للدفاع عن أرواحهم ومصالحهم".[1]
لقد بلور كارل ماركس فلسفته متأثراً بفلسفة هيكل التي تمنح للدولة واسع السلط في تدبير كل شيء، وتتنكر في المقابل لفكرة الحقوق الطبيعية للفرد، وعليه اصدر عام 1848 البيان الشيوعي الذي تضمن أسس وقواعد الاشتراكية التي يمكن الوصول إليها بعد مراحل التمهيد والصدام والانتهاء.
وعلى هذه الأسس استلهم المذهب الاشتراكي فكره من فلسفة كارل ماركس التي كانت أكبر معاقله الاتحاد السوفيتي القائم على مبادئ ديمقراطية اقتصادية اجتماعية. وبالتالي كان لزاماً على الواقع المطبوع بالحرية المطلقة في الاقتصاد، الذي يزيد تعميق الهوة والفوارق الاجتماعية الصارخة بين مختلف فئات وطبقات المجتمع، أن تظهر الأفكار الإشتراكية التي تدعوا بتدخل الدولة من أجل حماية حقوق العمال من الاستغلال البرجوازي، سعياً لتحقيق نوع من المساواة الفعلية والعدالة الاجتماعية.
يرى أنصار المذهب الاشتراكي أن التطور في الحقوق والحريات الذي يروج له انصار المذهب الليبرالي الفردي، ما هي إلا نصوص موضوعة في إعلانات الحقوق والدساتير، طالما لا يستفيد منها ولا يتمتع بها إلا فئة قليلة (البرجوازيين) من المجتمع، فهي حقوق شكلية مزيفة لا تكفل للجميع.
إن الحرية الفعلية التي يعتقدها أنصار المذهب الاشتراكي لا تتحقق إلا إذا تم القطع التام مع الملكية الخاصة لوسائل الانتجاع. ودعو مع ذلك إلى السعي لتحقيق المساواة المادية بين مختلف فئات وطبقات المجتمع، مساواة تقرب الفوارق الطبقية والاجتماعية.
هذا إلى جانب كون النظرية الاشتراكية دعت كذلك تبني معنى مغاير لمفهوم الحرية الاقتصادية الذي أتى به المذهب الليبرالي، حيث يعتقدون أن الحرية الاقتصادية هي حرية الجماعة وتحرر الجماعة العاملة من استغلال الاقطاعيين والبرجوازيين. وعليه دعا المذهب الاشتراكي إلى إعدام فكرة الربح والمشروع الخاص أي القضاء على الحرية الاقتصادية.
الحريات العامة وفق النظرية الاجتماعية:
يعتبر الكثير من الباحثين في قضايا حقوق الإنسان عامة والحريات العامة بشكل خاص أن المذهب الاجتماعي أكثر المذاهب المعاصرة ملائمة للأنظمة السياسية والديمقراطية نظرا لمرونته المتميزة. فالمذهب الاجتماعي يقوم على إعلاء مصلحة الجماعة فوق الأفراد وتقديم حقوقها على حقوقهم وانكار فكرة الفردية المطلقة واعتبار الجماعة لا الفرد هدف السلطة وأساس النظام (مرجع)
لقد أخذ المذهب الاجتماعي فكره وأسسه المرجعية من فلسفة اوجست كونت Auguste Conte
الذي وجه تفكيره نحو بناء اتجاه اجتماعي في الفكر السياسي والاقتصادي والقانوني، متأثراً بأفكار أستاذه "سان سايمون" الذي اعتقد عجر المذهب الفردي على إشباع حاجات الافراد، وقد نفى اوجيت كونت سلطة الفرد على الجماعة بناء على السبق التارخي للوجود الفردي على الوجود الجماعي؛ حيث دعا إلى الأخذ والاعتراف بصفة الفرد الجماعية والتي لا يمكن فصلها عنه نظرا لكونه اجتماعي مدني بطبعه.
لقد نادى كونت بالتقدم الجماعي الذي لا يمكن تصوره دون تنمية الشعور الاجتماعي لا الشعور الفردي الاناني. لذلك كان كونت من اعداء الحرية الاقتصادية وينادي باستمرار تدخل الدولة لتنظيم الاقتصاد وتوجيهه. وبالتالي فالملكية عنده مثلا وظيفة اجتماعية اكثر منها حق مطلق.[2]
لقد التقت افكار سان سايمون واوجست كونت مع افكار الفقيه الفرنسي ديجي Duguit والذي عبر عنها بنظرية التضامن الاجتماعي Solidarite sociale والتي وان كانت تعترف للفرد بكيان مستقل عن الجماعة الا انها لا تقيم وزنا لحقوق طبيعية. فالحقوق انما تتحدد فقط من خلال التضامن الاجتماعي والتي تتغير تبعا لضروريات الحياة المشتركة.[3]
المصادر: