تعد الترجمة أداة للتواصل بين الثقافات والحضارات المختلفة، بواسطتها استطاع الإنسان نسج علاقات التبادل الثقافي والعلمي. الترجمة هي أساس فعل المثاقفة المتبادلة والتلاقح الفكري في مختلف المجالات. أصبح فعل الترجمة في عصرنا الحالي تخصصا علميا قائما بذاته، والذي ساهم في بلورته مجموعة من المفكرين والرواد من مختلف التخصصات. ولا ننسى أن الترجمة باعتبارها عملا نسقيا فهي تحكمها ضوابط وخصائص وشروط إبداعية.
إن الترجمة اليوم عملية إبداعية لا تخلو من سمات الجمال والشعرية والابتكار،
وقد تجاوزت عملية النقل الآلي الميكانيكي من لغة إلى أخرى.
إن كتاب «ضيافة الغريب في ترجمة الشعر العربي الحديث» للدكتورة خديجة
الشرقاوي الخطابي، يناقش مفهوم الترجمة خصوصا في النصوص الشعرية، وقد بذلت
الدكتورة مجهودا كبيرا لرصد أدوات الممارسة الخاصة بترجمة النصوص الشعرية من مختلف
اللغات وصولا إلى اللغة الشعرية المغربية والعربية. إن المؤلفة من خلال كتابها يتبين لنا روعة البحث
الذي قامت به لتكشف لنا المظاهر التي ساعدت في تحديث النص الشعري العربي بناء
ودلالة، وذلك من خلال الترجمة كمنطلق. لكن ماذا تقصد الكاتبة بمفهوم الضيافة؟
يجب أن نعلم أن مفهوم الضيافة عند الكاتبة ينبني على خصائص التجارب
الأخلاقية التي تنسج الحياة بين الناس، في التفاعل والتبادل المبني على الاحترام
والحفاظ على كرامة الضيف والمضيف. ومن هنا نستنتج أن الترجمة تستضيف الغريب ونعني
بالغريب هنا اللغة الأساسية للعمل الذي وقعت عليه الترجمة.
اعتمدت الكاتبة والدكتورة خديجة الشرقاوي الخطابي في مؤلفها على منهج الوصف
والتحليل بالأساس، حيث ركزت بشكل كبير على مقاربة النص الهدف مستخلصة أوجه التشابه
أو الاختلاف، على مستوى الجمل والدلالة والمعجم والتركيب والصور. ويتبين لنا أن
العمل التحليلي العلمي للترجمات الشعرية هو الذي يشكل الإشكال المركزي للكتاب، وقد
خصصت الكاتبة أربعة فصول للإجابة على هذا الإشكال.
- الجزء الأول: الترجمة إشكالات وانشغالات؛
- الجزء الثاني: الترجمة وخطابها؛
- الجزء الثالث: الترجمة في الشعر العربي الحديث؛
- الجزء الرابع: الترجمة – الضيافة في الشعر المغربي.
تعريف بالكاتبة:
خديجة الشرقاوي الخطابي دكتورة في الآداب. تعمل حاليا أستاذة بالمعهد
الملكي لتكوين أطر الطفولة والشباب والرياضة، سلا. التابع لوزارة التربية الوطنية
والتعليم الاولي والرياضة. باحثة في مجال الطفولة وحمايتها.
أولا: الترجمة إشكالات وانشغالات
تعد الوظيفة البدئية للترجمة هي التناسخ بين اللغات، ووسيلة للإشعاع
الحضاري والبعد المعرفي. ومن خلال مجموعة من التساؤلات العميقة أصبحت وضعية
الترجمة تتغير شيئا فشيئا، وأصبح الفعل الترجمي متعدد التصورات والمناهج وذلك
تماشيا مع اختلاف المواضيع والعصور والمترجمين في العصر الواحد والثقافة الواحدة.
وهنا تساءلت الكاتبة عن سؤال الترجمة، وقد أجابت الكاتبة عن هذا السؤال باستحضارها
لمجموعة من المفاهيم للترجمة حيث نلخصها في معنيين: الأول وهو المتداول عربيا حيث
يتبنى الترجمة على أنها تفسير الكلام أو شرحه أو نقله من لغة إلى أخرى. والثاني هو
ما جاء به لسان العرب لابن منظور حيث يعتبر الكلام المترجم هو الكلام المنقول من
لغة إلى أخرى.لكن لا يمكنا أن ننكر أن الزخم الكبير من المصطلحات الذي تقدمه لنا
المعاجم في مفهوم الترجمة يرجع بالأساس إلى الفعل الترجمي الذي يتحدد لنا بدلالة
النقل، حيث ننقل نصا من لغة إلى لغة أخرى، لا يتميز عن باقي أنماط العلاقات بين
النصوص واللغات، وهذا ما جعل عزل الفعل الترجمي عن غيره صعبا.
وقد أشارت الكاتبة في هذا الجزء إلى أنواع الترجمة، حيث تختلف الترجمة
بالحرف عن الترجمة الحرفية. فهذه الأخيرة تشتغل عل مستوى نسق اللغة ونسق النص، أما
الترجمة الحرف لا تعيد إنتاج الأصل المصطنع بل المنطق المتحكم في هذا الاصطناع. ويجب
أن نعلم أن الدقة والأمانة ترجعان إلى الحرفية الجسدية للنص، وهنا تكون غاية
الترجمة في بعدها الأخلاقي هي استقبال هذه الحرفية داخل لغتها الأم. ولهذا
يجب على المترجم أن يكون حاضرا بقراءاته التاريخية وتعاليقه العديدة مع النسق
الأدبي والثقافي والاجتماعي، يواجه في عملية الترجمة الثقافة الهدف ونسقيها اللغوي
والأدبي، والمترجم الحقيقي هو الذي يحافظ على ما يمتنع عن النقل كما في الكتابة
الأصل، وهذه الفكرة التي من الصعب تحقيقها تتعلق بحمولة اللغة التي تختلف في الأصل
وفي الترجمة، ففي الأصل تكون حمولة اللغة مثل المعطف الواسع الطيات.
أما عن السؤال الذي تناقشه الترجمة هو سؤال فلسفي عند هايدغر والذي
يقول "قل لي ما رأيك في الترجمة، أقول لك من أنت"، وذلك حسب قوله لأن
الترجمة تعرفنا، واللغة تعرف أكثر منا. لكن الإشكال الذي كان يتبع الترجمة منذ
ظهورها كعلم فهو إشكال الأصل والنسخة ولتجاوز هذا الإشكال فقد أكدت الكاتبة على
أنه يجب علينا تجاوز الترجمة كميتافيزيقا، وذلك لأن الميتافيزيقا تريد أن تقهر
تعدد الألسن. وتعتبر الكاتبة أن الفعل الترجمي هو بعث وإعادة الفعل، لمن الجسم
المنبعث لا يكون كما كان، بل يكون آخر.
وقد ناقشت الكاتبة في هذا مجموعة من المواضيع التي تخص الترجمة كالأمانة
والخيانة لأن الفعل الترجمي تلازمه هاته الخصلتان. وقد تطرقت الكاتبة كذلك إلى
مفهوم وسؤال الغريب، وكيف يمكن للإنسان أن يدرك ذاته من غير الأنا الآخر، فكذلك
الترجمة. وهنا يجب أن نتساءل عن الهوية واللغة والترجمة، وقد وضحت الكاتبة هذه
العلاقة حيث قالت "فالهوية علاقة. والذي يسائل اللغة من أجل ترسيخ فكرة التعدد،
لأن الهوية ليست مجرد انتماء، بل هي قيمة رؤيوية وجمالية ولغوية وثقافية للكينونة
... فالهوية قائمة لا في التطابق والتماهي، بل في التباين والاختلاف".
ثانيا: الترجمة وخطابها
الترجمة في ماهيتها تستدعي إقامة علاقة أخلاقية بين الذات والآخر، وإلا
فقدت أساس وجودها، فهي ترغب عبر ماهيتها في جعل الغريب منفتحا كغريب على فضائه اللساني
الخاص، هذه الأخلاقية تفترض بدورها أن تنضاف إليها الممارسة التحليلية. فالمترجم
مطالب بالقيام بالتحليل لكي يستدل على أنساق التحريفات التي تهدد ممارسته وتعمل في
غفلة منه، حتى على اختياراته اللسانية والأدبية. وهو جهد تبذله كل ترجمة لإضافة
أشياء إلى ثقافتها.
وقد ناقشت الكاتبة من خلال هذا الجزءموضوع الترجمة ونظرياتها اللغوية، حيث
نجد من هم داعمين لهذا الفعل ويقرون على إمكانية الترجمة، وهناك فريق يأكد على
استحالة الترجمة محتجين بالاختلافات اللغوية والثقافية والحضارية التي يعرفها
العالم.وهنا نقف عند الترجمة التأويلية حيث ينبه علماء اللغة إلى مستويات متعددة
للتأويل والصياغة داخل سياق معين، وهذه المستويات محكومة باختلافات لغوية لا يمكن
للمترجم تجاهلها، وهي اختلافات ذات طابع فونولوجي، اختلافات ذات طابع نحوي،
واختلافات من نوع سيميائي. وهكذا تصير العملية التأويلية تفاعلا حيويا كامنا في
النص المترجم.
تناولت الكاتبة في هذا الجزء شعرية وأكدت من خلاله أن مشروع إعداد شعرية
للترجمة راجع إلى أعمال الرومانسيين الألمان. ثم انتقلت المؤلفة للكتابة عن الترجمة
والشعر باعتبار هذا الأخير من أعرق الفنون الأدبية وأصعبها. إلا أن ايتكندحدد
ستة أنماط لترجمة الشعر وهي: الترجمة-إخبار، الترجمة-تأويل، الترجمة-تمويه،
الترجمة-تقريب، الترجمة-محاكاة، الترجمة-إعادة إبداع.
في ترجمة النص الشعري يجب أن نحافظ على الإيقاع حيث هذا الأخير يتأسس في
النص وبالنص. وهنا يمكننا القول أن الترجمة ليست فقط ممارسة أدبية بل هي إعادة-إبداع.
والأدب المترجم نسق ضمن النسق الأدبي المتعدد، ومرتبط بالنسق المتعدد الثقافي
والاجتماعي والسياسي.
ثالثا: الترجمة في الشعر العربي الحديث
يجب أن نعلم أن ترجمة الشعر الأجنبي إلى العربية هو واقع وحدث جديد، وذلك
لأن شعر الشعوب الأخرى لم يكن يثير فضول العرب، حيث هم من كانوا مشهورين بالشعر
وبلاغة وفصاحة اللسان. وهنا نعود إلى قول الجاحظ عن فضيلة الشعر المقصورة على
العرب، لأن الشعر لا يستطاع أن يترجم ولا يجوز عليه النقل، وذلك لأنه كلما حاولنا
تقطيع نظمه وبطل وزنه، ذهب حسنه وسقط موضع التعجب، لا كالكلام المنثور. لكن في
عصرنا الحديث لم يعد الشاعر العربي يحفظ المعلقات، بل أصبح هدفه كتابة قصيدة تشبه
القصيدة الغربية من خلال ترجمة شعر الغرب وذلك من أجل الوصول إلى العالمية عن طريق
الترجمة.
ولهذا تحدثت الكاتبة عن تجليات الترجمة في بداية القرن العشرين وشرحت هذه التجليات
من خلال ترجمة الإلياذة، وذلك لأن في ذلك الوقت شكلت ترجمة المؤلفات الملحمية أهمية
كبرى في جميع اللغات، حيث أن النموذج الأعلى للشعر يمثله في المفهوم الغربي الشعر
الملحمي.
ولكي نفهم أكثر واقع الترجمة في الشعر العربي الحديث، فقد تطرقت الكاتبة
إلى الترجمة عند الشاعر والأديب أحمد شوقي وعرفتنا على فعل الترجمة في أعماله من
خلال مقدمة ديوانه شوقيات. وكذلك أدرجت الكاتبة مجموعة من النماذج الترجمية في
الشعر العربي الحديث كترجمة قصيدة البحيرة للامارتين، وترجمة الدواوين،
وكيف تبنى الترجمة في القصيدة العربية الحديثة انطلاقا من ترجمة الخيال عند الشابيمرورابالترجمة
الحرفية عند إلياس أبو شبكةوصولا إلى ترجمة الأسطورة.
تعد الترجمة هي الشرفة التي أطل منها الشاعر العربي على عالم آخر وعلى نص
شعري مغاير. ومن خلالها تبنى مصطلحات جديدة سميت بها الحركات الشعرية كالكلاسيكية
ورومانسية وشعر حر وآخر معاصر، حيث ارتبطت هذه المصطلحات بقيم جاءت من الغرب، وهي
التي حددت معايير التحديث في الشعر العربي، وذلك من خلال دخول مفهوم الأجناس،
والقوافي والأوزان واللغة الشعرية، وانتقال فضاء القصيدة من العمودي إلى الافقي.
رابعا: الترجمة – الضيافة في الشعر المغربي:
الترجمة في المغرب في النصف الأول من القرن العشرين كانت تتراوح بين الهواية
والخواطر ولا تخضع لضرورة تعليمية، وكان لها تأثير خافت على حركة الشعر المغربي
الذي كان غارقا في الشكلية والتقليدية.
والشعراء المغاربة الذين ترجموا الشعر الأوربي ركزوا أكثر على الشعر الغربي
المعاصر، ولم يهتموا بترجمة الأسطورة إلا نادرا.
وقد توقفت الكتبة عند الكاتب والأديبالمغربي محمد بنيس وأعماله في
الضيافة الشعرية، حيث أنه ترجم لكثيرمن الشعراء الفرنسيين ولشعراء مغاربة يكتبون
بالفرنسية. وقد دعمت الكاتبة موقفها من ضيافة الغريب في الشعر المغربي بمجموعة من
أعمال الدكتور محمد بنيسك ترجمته لشعر برنار نويل وترجمة ديوان
"قبر ابن عربي"، وترجمة قصيدة ملارمي"رمية النرد أبدا لن
تبطل الزهر". وقد قدمت الكاتبة في نهاية كتابها ضيافة الغريب نماذج عن
كل الأعمال الترجمية التي سبق ذكرها.
بواسطة كتاب الدكتورة خديجة الشرقاوي الخطابي، "ضيافة الغريب"
سافرنا في عالم الترجمة وفهمنا أكثر الوصف الذي منحته الكاتبة لهذا العلم وهو
ضيافة الغريب. وبكوني قارئة حديثة في الشعر والترجمة معا، فقد استمتعت بقراءتي
لهذا الكتاب، ومن خلاله ابحرت في بحر الشعر والترجمة في آن واحد وتعرفت على
أبجديات الترجمة عموما وفي الشعر الحديث خصوصا.
ولا يسعني أن أختم قراءتي لهذا الكتاب إلا بخلاصة للدكتور المصطفى حدية في هذا الصدد بقوله "لقد أبرزت الباحثة في مؤلفها القيم أولا أهمية الترجمة في عالم اليوم نظرياوإبداعيا. وأوضحت ثانيا المحطات الأساسية للترجمة وفاعليتها النصية في ثلاثنماذج أساسية التقليدي الرومانسي والتحديثي، حيث يبدو فيها فعل الحوار الذيأقامه شعراء وكتاب أثروا ولا زالوا في حركية القصيدة وفي رحلتها عبراللغاتوالثقافات.فالمؤلفة تؤكد في ختام بحثها المهم نتيجة مركزية تستحق عليها التشجيع تتمثلفي قولها أن الترجمة اسم للعبور، وأن تحديث الشعر العربي أصبح مشروطابالعبور إلى الغرب، ولا يكون العبور إلا إذا استضافت القصيدة الغريب في الكلمةالشعرية، ضيافة تحترم آداب الضيافة ... كان من الصعب على المؤلفة الإحاطة بجميع التيارات والتجارب الأجنبية التي أثرت في الشعر العربي. ولكي ننتسبإلى شعرية عالمية، اختارت المؤلفة في الجزء الخاص بالشعر العربي أن تمر علىمحطة تحديثية عربية أبانت عن وعي نظري مدرك لخصوصية فعل الترجمة الشعريةوطموح من أجل تحديث القصيدة العربية وبلوغ العالمية.على الضيف الغريب مع الاحتفاظ بملكية الأنابالفعل، إن تحديث القصيدة الشعرية اليوم لا يمكن أن يستقيم دون الانفتاحودعم خصائص التلاقح والإبداعوالابتكار في عالم معولم".
بقلم: شيماء بن تواحيت