لم يعد الصمت تجاه المثلية الجنسية كظاهرة سلوكية خياراً ناجحاً في ظل ما تشهده الساحة الدولية والوطنية من متغيرات على هذا المستوى، الصمت الذي اختاره عدد من الفاعلين في مختلف الميادين القانونية والحقوقية والدينية وغيرها موقفاً لها، وذلك لكون الظاهرة لا تعالج بالترك والتجاهل بقدر ما تعمق مشاعر الشك والتيه والضبابية، ما يفتح المجال ويتركه عرضة لنشر مواقف ورؤى قد تكون جانحة عن جادة الصواب، ولكن لكونها الرأي الأوحد المطروح فهذا يجعل لها الإمكانية على أن تستبطن في وعي كثير من الأفراد داخل المجتمع، خاصة لدى فئة الأطفال والمراهقين العديمي أو ناقصي الإدراك والتمييز.
إن المثلية الجنسية ليست بالظاهرة الجديدة، ولكنها قديمة ضاربة بجذورها في عمق التاريخ؛ فالدراسات التاريخية والكتابات الدينية تحيلنا على عدد من الحقب والمجتمعات التي عرفت هذا النوع من سلوك الجنسي، ولكن على الرغم من ذلك، ليس هناك أي تاريخ يبين على وجه الدقة والتحديد الولادة الفعلية لبدايتها، غير أن كثيراً منها يحيلنا على قصص وروايات تبين أن بلاد الرافدين والهند والصين ومصر القديمة واليونان القديمة وغيرها.. شهدت هذا النوع وعايشته، بل إن بعضاً منها تغنى وتفاخر به، وفي الوقت نفسه نبذته مجتمعات أخرى وحاربته، خاصة عندما يكون الوازع الديني الدافع والمغذي لموقف النبذ والمعارضة.
إن ما تثيره الظاهرة في الوقت الحالي من إشكاليات وقضايا مؤطرة غالبا ضمن سياقات حقوق الإنسان والحريات الفردية، يجعل من اللازم والواجب على مختلف الفاعلين مقارعة المواقف بالحجج والبراهين لا بالتجاهل والترك، لان هذه المقاربة لا تحد ولا تمنع الظاهرة من السيل تجاه الفئات الأقل قدرة على الإدراك والفهم، خاصة عندما نتحدث عن الإمكانات الهائلة التي تقدمها وسائل الإعلام والقادرة على أن تكون آلية للتواصل ومثير لتحفيز أي اتجاه سلوكي معين،
وهذه الآلية تعرف إقبالاً كبيراً من قبل الفئة المذكورة.
إن المظاهر السلوكية التي يعتبرها المجتمع شاذة ومرفوضة، لا تظل أبد الدهر على نفس الحال، بل إن هناك دينامية مستمرة ومتسارعة تفرض التغير على المجتمع الرافض وتجعله يخضع لأمر الواقع، شأن ذلك شأن المجتمعات المحافظة التي تتعرض لضغط سياسي وقانوني وحقوق هائل يجعل ثباتها على مواقف الصمت والمحافظة عرضة للهز والحلحلة والتطبيع في مراحل لاحقة مع ما كان يحاربه في وقت سابق. ولعل هذا الأمر هو نفسه الذي تدعوا إليه بعض القوى وتسابق في سبيله الزمن قصد الظفر بتعديل بعض فصول القانون الجنائي، خاصة تلك التي تتعلق بالحريات الفردية وعلى رأسها الفصل 490 والذي يجرم العلاقات الجنسية الرضائية خارج إطار الزواج.
إن هذه المتغيرات تسائل وتدعوا إلى الحوار البناء للرد على التوجهات الجديدة، وما يحدث اليوم مع هذا النوع من السلوك (موضوع الفصل 490) قد يحدث مستقبلا مع سلوك المثلية الجنسية، وما هي إلا مثال نبين به
كيف تكسر طابوهات المجتمع اليوم أمام صمت علمي وغياب حوار مجتمعي غير مبرر. ونحن هنا لا نقف ممتنعين ولا خاضعين
للتغيير لذاته، بقدر ما نقف مستغربين لكيف يغيب الحوار الناقد عن قضايا تهم حياة
المجتمع؟
لقد تضاربت المواقف العلمية التي حاولت تشخيص سلوك المثلية الجنسية أو تصنفه ضمن الاضطرابات النفسية أو الإمراض البيولوجية أو الحالات الاجتماعية الشاذة؛ بحيث نجد "سيكموند فرويد" يؤكد على أن المثلية الجنسية [ليست ميزة لكنها ليست حاله تدعو إلى الخجل أو تتسم بالرذيلة ولا يمكن تصنيفها ضمن الأمراض، ونحن نعتبرها اختلاف في الوظيفة الجنسية تحدث من جراء كبح النمو الجنسي...].[1]
غير أن كثيراً من التحليليون الجدد الذين تبعوا فرويد كانت لهم آراء أخرى بحيث إعتبر"ساندور رادو" أن [المثلية هي محاولة للحصول على، اللذة الجنسية، عندما تكون العلاقة الغيرية الطبيعية صعبة ومهددة للمراهق، غير أن هناك من التحليليين من رأوا أن المثلية الجنسية تنتج من علاقات مرضية داخل الأسرة خلال المرحلة الأوديبية من النمو الجنسي 4 – 5) سنوات)].[2]
إن هذا الرأي الأخير لم يدم طويلا؛ بحيث أشارت جمعية علم النفس الأمريكية [3](APA) في عدد من تقاريرها وأبحاثها إلى أن سلوك المثلية الجنسية ليس بالمرض أو الاضطراب، ومنذ 1973 أخرجت المثلية الجنسية من الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات العقلية.[4]
أمام هذه الأطاريح يمكننا أن نتساءل عن ما إذا كانت المثلية الجنسية قادرة على المساهمة في تصنيع الحياة أم أنها جنوح عن جادة الطبيعة يعيق مسارات التنمية المجتمعية ويعود القهقرى بالمجتمع إلى أزمنة الضعف والهوان؟ وكيف يتمثل المثلي الجنس ذاته أمام موقف العقل الجمعي؟
الأكيد أن الإشكالية قائمة على مستويين إثنين؛ الأول بحث في البعد الذاتي للمثلي الجنسي وحياته النفسية والاجتماعية، وبعد ثاني مجتمعي يمثل عقل المجتمع وقواعده،
ويمكن أن نظيف بعداً ثالثاً غائياً يبحث في جدوى السلوك وعائداته على المجتمع.
فأما البعد الأول؛ فمن المحتمل أن مثليي الجنس يعانون صراعاً داخلياً مستمراً بين القيم والمعايير التي استبطنوها صغاراً عن طريق مؤسسات التنشئة الاجتماعية بما فيها التربية الوالدية المحافظة وبين اختياراتهم الجنسية الجديدة، فالذي تربى على توجهات ومعايير أخلاقية معينة يكون من الصعب عليه أن يتعايش مع نقيضها في مراحل متقدمة من حياته، ونعلم أن التربية التي يتلقاها الفرد في مراحل طفولته الأولى كفيلة إلى حد كبير بأن تجعله ضمن لفيف
الصلحاء أو الطلحاء، فهذه الاختيارات والميول والعادات
تنتج بفعل تأثير البيئة والمحيط.
مما يعني أن فعل التربية كما يراها René Hubert [مجموع التأثيرات والأفعال التي يمارسها بكيفية إرادية كائن إنساني والتي تستهدف تكوين لديه مختلف الاستعدادات التي تقوده إلى النضج والاندماج.. وكذا التنشئة الاجتماعية يظل حاضرا في لأوعي الفرد يؤثر في قراراته واتجاهاته].[5]
إن هذه الإشارات تدل على أن الأحمال الأخلاقية والثقافية والقيم والمعايير التي يستدمجها الفرد داخل بنائه النفسي تظل في صراع دائم ومستمر مع اختياراه السلوكي والأخلاقي الجديد الذي يتعارض مع مبادئها، إنه تضارب لمصالح الذات الجامحة مع قواعد المجتمع المترسبة في داخل الفرد. إن هذا الصراع يظهر دائماً كلما تعارضت مصالحنا الفردية مع مصالح الجماعة سواء في علاقاتنا الوظيفية أو حياتنا الزوجية أو اختياراتنا الثقافية.. إلخ، وبالتالي يظل حاضراً شعور الصراع بداخل الفرد الحامل لميول جنسيه يعتبرها المجتمع شاذة، ويقر الميال نفسه بأن المجتمع لا يقبله، إن هذا الأمر هو الذي يفسر بشكل واضح لماذا نفعل ما يريد المجتمع منا أن نفعله وليس العكس؟
أما ما يتعلق بالبعد الثاني من صراع مجتمع الميم[6](LGBTQ) ، فهو صراع الذات مع العقل الجمعي الذي يمكن أن نصفه بالبنية الأخلاقية والقيمية والسلوكية، باعتبارها مؤثرات تلامس وتدعوا العقل الفردي نحو تبني أنماط معينه من التفكير أو التصرف. يمكن اعتباره كذلك تكتل إيديولوجي يستمد سلطته من تقابل نزعات ووجدان جموع من الأفراد مشكلين ما يمكن أن نصفه تجاوزا "بالرأي العام" على ما يوجد من اختلاف بين هذه الأخيرة ومفهوم العقل الجمعي. فالرأي العام كما عرفه"فلويد آليورتFloyd Alport" [تعبير جمع كبير من الأفراد عن أرائهم في موقف معين، ويمكن استدعائهم للتعبير عن أنفسهم، سواء أكانوا مؤيدين أم معارضين لمسألة نهائية معينه أو لشخص أو اقتراح ذي أهمية واسعة النطاق، بحيث تكون نسبتهم في العدد من الكثرة والاستمرار كافية لإحداث إمكانية التأثير على العقل بطريقة مباشرة تجاه الموضوع الذي هم بصدده].[7]
إن لهذا الرأي العام قوة التأثير على اختيارات الفرد وهو حسب "لاسويل J. R. Lasswell" [له وجود معنوي لا نراه وهذا لا ينقص من قوته].[8]
إن سلطة الرأي العام والعقل الجمعي مستمدة أساساً من الاجتماع البشري الذي يخلق ظواهر اجتماعية تعكس سلوك الجماعة ولا تعكس سلوك الفرد، فكيف يقف الفرد الشاذ عن نواميس الجماعة أمام سلطة وضغط الجماعة ذاتها؟ إن هذا الموقف المعارض الذي يتبناه الفرد صاحب السلوك الجنسي الشاذ تجعله محط موجه كبيرة من الآراء والأحكام المسبقة والتمييز، فقد أشارت عدة أبحاث أن مجتمع الميم يبقى دائما محط تصريحات عدائية حتى في المجتمع الأمريكي المعاصر، فالتحرش والإساءة اللفظية تمثل تقريباً تجارب كونية للمثليين والمثليات وثنائي وثنائيات الميل الجنسي.
مما يعني في الأخير أن الذات الفردية تصطدم بذات الجماعة عندما تقرر التصرف أو التفكير خارج إطار الجماعة ومساحتها الملأى بقواعد الدين والثقافية والعادات.. إلخ، وعليه تكون الذات الفردية غير فاعلة في ظل هذا النزاع البيني.
ألان، لو بحثنا في عائد هذا السلوك وفوائده ونتائجه هل سنجده يساهم في تصنيع الحياة والمحافظة على صحة المجتمع واستمراريته أم أن قبوله ضرب لإعاقة المجتمع والفرد؟
فإذا كانت غاية الفرد الحامل لسلوك المثلية الجنسية بناء أسرة بمعية شريك من نفس الجنس، في إطار علاقة عاطفية متبادلة، كما يعتقد البعض، فماذا يمكن أن تقدم هذه الأسرة للمجتمع الذي تنتمي إليه؟ إننا نعتقد بأن أي من المجتمعات البشرية لا تحتمل وجود ظواهر مرغوبة لا يرجى من ورائها أي عائد يروم تحقيق فائدة للنسق العام، فكل سلوك سلوك يقاس بمنطق العائد من وراء الكلفة –كلفة القبول-.
إننا نعتقد بشأن التصدي لمثل هذه الانحرافات الجنسية وتدهور الهوية الجنسية للفرد، أن الاعتماد على التدخلات المبنية على أسس ومرجعيات علمية سيكون له وقع وأثر إيجابي على تصحيح هذه الاتجاهات، هذا مع ضرورة الانفتاح الموضوعي على التربية الجنسية كأحد أبعاد التربية العامة وأوجهها، على اعتبار أن ذلك النوع من التربية حسب "عبد العزيز القوصي" تمد الفرد بالمعلومات العلمية والخبرات الصالحة والاتجاهات السليمة إزاء المسائل الجنسية بقدر ما يسمح به نموه الجسمي والفيزيولوجي والعقلي والانفعالي والاجتماعي مما يؤهله لحسن التوافق في المواقف الجنسية ومواجهة مشكلاته الجنسية في الحاضر والمستقبل مواجهة واقعية تؤدي إلى الصحة النفسية.[9] إن هذا الاتجاه التربوي لا شك يكون فاعلاً في تجنب كثير من الانفلاتات الأخلاقية ذات الطبيعة الجنسية وعلى رأسها الميول الجنسي المثلي بمختلف أنواعه وصنوفه.
بقلم: نعمان حمداوي
المصادر:
[1] ثرود الحنكاوي
اللهيبي، التدهور القيمي في المجتمع العراقي في ظل الاحتلال الأمريكي، استفحال
ظاهرة المثلية الجنسية الشاذة، دار دجلة، الطبعة الأولى 2014، الصفحة 41 (بتصرف).
[2] ثرود الحنكاوي اللهيبي، المرجع
السابق نفسه ، الصفحة 42 (بتصرف).
[3] APA: The Diagnostic and
Statistical Manual of Mental Disorders,
Second Edition.
[4] The Lebanses Psychiatric Society position
regarding homosexuality in Arabic. Article (August 2017).
[5] احمد أوزي، المعجم الموسوعي الجديد لعلوم التربية، منشورات مجله علوم التربية، العدد 42
،
الصفحة 121.
[6] LGBTQ :Lesbian,
Gay, Bisexual, Transgendered and Questioning
Individuals.
[7] احمد أوزي، المعجم الموسوعي الجديد لعلوم التربية، المرجع السابق، الصفحة 253.
[8] احمد أوزي، المعجم الموسوعي الجديد لعلوم التربية، المرجع السابق، صفحه 15.
[9] عبلة مرجان التربية الجنسية للأطفال حق لهم واجب علينا، مطبوعات جائزة خليفة التربوية، 2010، الإمارات صفحة، 38.