علاقة الثقافة بالشخصية:
احتلت الشخصية الإنسانية والعوامل المؤثرة في تكوينها مكانة بارزة في الدراسات النفسية والاجتماعية، ومعظم نظريات الشخصية تفصل بينها وبين الثقافة، وكان الجدل عند الباحثين الأوائل يدور حول هذه العلاقة وتأثيرها على تكوين الشخصية. فشخصية الفرد تنمو وتتطور من جوانبها المختلفة، داخل الإطار الثقافي الذي تنشأ فيه وتعيش، وتتفاعل معه حتى تتكامل وتكتسب الأنماط الفكرية والسلوكية التي تسهل تكيّف الفرد، وعلاقاته بمحيطه الاجتماعي. وكل ثقافة تحدد أسلوبا، وهذا ما يكسب الثقافة وحدتها ويضفي عليها خصوصيتها بالنسبة إلى الثقافات الأخرى. ويكمن صياغة سؤال العلاقة بين الثقافة والشخصية في السؤال التالي: إلى أي مدى يمكن اعتبار الثقافة مسؤولة عن بناء الشخصيات؟
أثر الثقافة في بناء الشخصية:
الإنسان يولد داخل مجتمع له ثقافة خاصة، تلك الثقافة هي الإطار الأساس والوسط الذي تنمو وتتشكل فيه شخصيته، هي التي تؤثر في أفكاره واتجاهاته وقيمه ومعلوماته ومهاراته وخبراته ودوافعه وطرق تعبيره عن انفعالاته ورغباته.
إن دراسة الثقافة والشخصية تمثل نقطة التقاء بين علم النفس والأنثروبولوجيا، ولا يمكن فهم شخصية الفرد، من دون الأخذ في الاعتبار الثقافة التي نشأ عليها. وهنا يتجلى تأثير الثقافة في الفرد في النواحي الاتية:
أثر الثقافة على الجسم:
إن الثقافة السائدة في مجتمع ما كثيراً ما تلزم الفرد على أعمال أو ممارسات قد تفيده أو تضره من الناحية الجسمية فمثلاً كانت العادة في الصين في بعض الطبقات أن تثني أصابع الطفلة الأنثى وتطوى تحت القدم، وتلبس حذاء يساعد على إيقاف نمو قدميها وتجعلها تمشي مشية خاصة، واعتبرت من علامات الجمال، هذا معناه أن الجماعة التي يعيش فيها الفرد والثقافة التي يترعرع فيها هما اللتان تحددان معايير الجمال.
وثقافة الجماعة هي التي تحدد في كثير من الأحيان ميول الأفراد لبعض أنواع الأكل والشرب وأكبر دليل على ذلك ادمان بعض الأفراد للشاي والقهوة. هذه كلها ميولات مكتسبة من البيئة الثقافية، أي أنها ليست مقررة بالفطرة وحاجة الجسم الفسيولوجية.
أثر الثقافة على العقل:
ان الإنسان الذي يعيش في جماعة تسود في ثقافتها العقائد الدينية تنشأ عقليته وأفكاره متأثرة بذلك والإنسان الذي يعيش في جماعة تسود في ثقافتها الخرافات الثقافية تنشأ عقليته وأفكاره متأثرة بذلك فمثلاً يعتقد أهل قبيلة "نافاهو" من قبائل "الأريزونا" الأمريكية أن العالم مشبع بقوى خفية يمكن للإنسان أن يعدل فيها بعض الشيء ولكنه على العموم خاضع له، كما ينظر الواحد منهم إلى القرابة على أنها قوة تؤدي إلى تثبيت نظام الكون، وهكذا تتدخل ثقافة الجماعة في مضمون أفكار الأفراد ومعتقداتهم وآمالهم ومخاوفهم وقيمهم.
أثر الثقافة على المزاج:
التكوين المزاجي كونه كون التكوين الجسمي والعقلي، فهو يتضمن الاستعدادات الثابتة نسبياً والمبينة على ما لدى الإنسان من طاقات انفعالية ودوافع غريزية يزود بها منذ طفولته، هنا تلعب الثقافة دورا مهما في التأثير على الجانب المزاجي فتجعله يتشكل ويتنوع تبعاً لها، وليس أدل على ذلك من الدراسة التي قامت بها أكثر علماء الأنثروبولوجيا الثقافية شهرة في الولايات المتحدة الأمريكية "مرغريت ميد" على قبيلة "الأرابيش" حيث لايوجد لدى هذه القبيلة تلك الاختلافات بين شخصيتي الرجل والمرأة بل أظهر الرجال والنساء على حد سواء صفات الأنوثة والأمومة. فغاية الحياة في نظر الرجال والنساء على السواء هي الحمل وتربية الأولاد. وما إن يولد الطفل حتى يشارك الأب في جميع واجبات رعاية الوليد.
كما أن الثقافة تؤدي دوراً مؤثراً في تنمية الانفعالات، فسكان جزر اندمانيس في نيوزيلاندا الجديدة. الأغاني عندهم على شكل حداد تغنى بالبكاء فالسرد الدرامي شكل فني بالنسبة لهذه القبائل.
وتختلف ثقافات المجتمعات في التعبير عن الانفعالات في حالة الحزن، مثل المجتمع الصيني الذي له مؤلفات كثيرة تنص على كيفية التعبير اللائق عن الحزن ومنها مؤلف جاء فيها (إذ مرض والدك أو والدتك فلا تبتعدي عن فراشه، وذوقي كل الأدوية بنفسك، تضرعي إلى الله لشفائه أو لشفائها، وإذا حدثت مصيبة فابكي بكاءً مراً).
أثر الثقافة في الناحية الأخلاقية:
كل ثقافة تحتوي على تيار أخلاقي بها، ينساق فيه الإنسان متأثراً بالمعايير الأخلاقية السائدة من ناحية الخير والشر والحق والباطل والصواب والخطأ، وهذه المعايير نسبية تختلف من زمان إلى زمان ومن مكان لآخر، فالسرقة تعتبر من الجرائم في المجتمعات المتحضرة، ولكنها كانت مباحة في كثير من المجتمعات البدائية والقديمة حيث كانت تعتبر نوعاً من أنواع البطولة، فثقافة "الاسبرطيين "مثلا كانت تنظر إلى السرقة كنوع من أنواع البطولة حيث يتم تجويع الصبية "الإسبرطيين" وتركهم في العراء لتعويدهم على تحمل الجوع والحياة الصعبة في الطبيعة، لذلك كان يدفع الصبية إلى السرقة لتوفير ما يحتاجونه من طعام وفي حالة الإمساك بأحد الصبية السارقين أثناء قيامه بعملية السرقة كان يعاقب عقابًا شديدًا، ليس لأنه سرق، ولكن لأنه لم يكن بارعًا في تحركاته وقويًا في مقاومته بما فيه الكفاية لكي يفلت من الإمساك به، وبذلك تربى أبناء "إسبرطة" منذ الصغر على استراتيجيات الاختراق والتسلل والمقاومة و كل ذلك لبناء جيش قوي في نظرهم.
وجملة القول أنه ثبت بالأدلة الانتروبولوجية أن كثيراً من الصفات الأخلاقية التي كان يردها علماء النفس إلى الفطرة والوراثة ترجع إلى حد كبير إلى فوارق ثقافية فالشخصية الإنسانية لا تنبت من فراغ مستقلة عما حولها، وليس من السهل الاستدلال على ذلك بإجراء التجارب لعزل الأطفال عن المجتمع عزلاً تاماً فهذه عملية غير إنسانية ولكن من حسن الحظ أن الصدف والأحداث الطارئة زودت البحث العلمي بحالات واقعية كدليل قاطع على أن الثقافة تصنع الشخصية ومن هذه الحالات ما يأتي:
حالة كاسبر هاوزر:
الذي وضع في زنزانة مظلمة منذ طفولته المبكرة وعاش فيها وحرم من الاتصال بغيره من الناس لأسباب سياسية، وحينما عثر عليه وأخرج من السجن في سن السابعة عشرة، وأخذ يتجول في المدينة عام 1828م لم يكن يستطيع المشي إلا بصعوبة وكان يفكر كالأطفال ويصدر أصواتاً عشوائية ، كل ذلك لأن حرمانه من معايشة الجماعة حرمه من الاستمتاع بالقدرات الإنسانية نفسها.
حالة الطفلة آنا:
هي طفلة أمريكية غير شرعية خشي جدها من افتضاح أمر أبنته فعزل طفلتها في حجرة مظلمة في أعلى مسكنه ومنع أي إنسان من أن رؤيتها أو معرفة أمرها ولم يكن اتصاله بها كثيرا، هكذا بقيت انا في تلك الحجرة الى أن اكتشفت بعد ذلك بخمس سنوات عام 1938م، بحيث لم تستطع الكلام أو المشي، وكانت ترقد دائما وترتجف من ملامسة أي شيء،كانت مجردة من العواطف، ولا تكترث بمن حولها وما حولها.
من كل هذه الأمثلة وغيرها يتضح جلياً ضعف المكونات الحيوية والعناصر الوراثية حينما تترك لشأنها، إذ تعجز عن تكوين الشخصية الإنسانية وحدها لأن القدرات البشرية لا تنمو إلا في إطار ثقافي يتفاعل معه الفرد ويتأثر به، وهذا ما يعرف بعملية التنشئة التربوية حيث يندمج الطفل في الإطار العام عن طريق إدخال التراث الثقافي في تكوينه، وتعليمه أساليب السلوك في المجتمع الذي يعيش في إطاره، فينشأ منذ طفولته في جو مليء بالأفكار والمعتقدات والأساليب التي شب عليها، واصبحت من مكونات الأساسية لشخصيته.