بقلم: ريهام أزضوض، كاتبة مغربية
مقدمة:
من القضايا المهمة التي تستأثر باهتمام بالغ من طرف المهتمين بأمر العمل الجمعوي والممارسين له ما يتعلق بمدى تحقيق الأهداف المرجوة جراء تحديات تعرفها المناطق الهشة والفقيرة، خاصة إذا علمنا أن طبيعة المجتمعات البشرية في الأرياف تميل إلى حب الخير والتعاون ومد يد العون للآخرين، وهذه سمة اجتماعية لا تكاد تخلو منها تلك المجتمعات البسيطة وهو أمر محمود وجيد، إلا أن الناظر في طبيعة منطقة الريف المغربي يجد أنها تعرف تهميشا وإهمالا على المستوى الاقتصادي والثقافي والعلمي والسياسي؛ إذ ما زالت المنطقة تنتظر من أصحاب الرأي الرشيد الاهتمام بتلك الأماكن التي تتمتع بالصفاء الفطري، إلا أن معاناة أهاليها تتجه إلى انحدار اقتصادي أخطر بكثير مما كان عليه الحال من قبل.
التحديات والأفكار المغلوطة:
تعددت التحديات التي تعتري العمل الجمعوي الجاد وذلك لغياب أهل الإصلاح في المنطقة، مما يفضي غالبا إلى انعكاس الوضع سلبا، وينتج عنه ظواهر تقض العقل والوجدان، ولعل من أمثلة ذلك هروب الشباب من تلك المناطق عن طريق الهجرة السرية، وتفاقم نسب البطالة والغلاء المعيشي، مما يظهر انعدام أي أمل في الحياة الكريمة التي تليق بالإنسان في المستقبل، فما مصير الأجيال والطاقات الشابة الهائلة والرائعة في تلك المناطق ؟
حُقَّ لقائل أن يُسند الأمر إلى المشكل السياسي، وإزاء هذا الوضع هل يكفي التبرير بالفشل السياسي في معالجة المشكل أم أن ذلك لا يترك المجال للتفكير وإبداع طرق أخرى قد تقي المنقطة بعض البؤس الطائل عليها؛ فقد رأى الجميع النتيجة المؤلمة للدينامية الاجتماعية التي شهدتها المنطقة للحصول على أدنى شروط العيش الكريم، فكان الجواب هو الزج بهم إلى أتون الاعتقال بدعاوى تجاوزت منطقة الخيال إلى التفنن في إبداع الأساطير.
العمل الخيري القائم وضرورة الاستدراك:
ولذا فإن هذه النتيجة تعيد إلى الواجهة ضرورة التفكير مليا في طرق أخرى أكثر جدوى وإنقاذا لما بقي من أمل في أصحاب الضمائر الحية، وتقدم بعض الحلول الرمزية للمجتمع والشباب أفضل بكثير من التضحيات التي تحدث في كل مرة، صحيح أنه يوجد من أبناء الريف المهاجرين من يقدمون يد العون إلى تلك المناطق الفقيرة، ويتم ذلك عن طريق الجمعيات الخيرية التي تتأسس خارج الوطن، ويكون لها تعامل مع الجمعيات الداخلية بشكل رسمي وقانوني بغرض تقديم يد العون للفقراء والمحتاجين، وهناك أيضا بعض الأمور المحمودة التي تتم كتقديم الخدمات العلاجية للمرضى وأخذ المرضى الذين يعانون من أزمات صحية حادة خارج الوطن، نظرا لعدم توفر المستشفيات في المنطقة، ناهيك عن التخصصات الجراحية الصعبة ومساعدة الأطفال في بداية العام الدراسي بتقديم الأدوات المدرسية وغير ذلك، إلا أن حجم الأموال الذي يصرف في بناء المساجد وتجهيزها بأجود أنواع البلاط والإكسسوارات والسجاجيد وغير ذلك الذي يتم في مناطق نائية لا يوجد فيها إلا سكان معدودين هم في الأصل ليسوا بحاجة إلى تلك المساجد، بل هناك مساجد قديمة يكفي إصلاحها وترميمها.
افتقاد البوصلة للعمل الجمعوي:
لم يسهم العمل الخيري بعد في بناء أوطاننا وتغيير أحوال الشباب ومساعدتهم قدر الإمكان والحد من تفاقم الوضع، فمازال عمل الجمعيات يتم بشكل تقليدي وعتيق جدا، ومازالت ثقافة جمع الأموال لا تعرف طريقا لها سوى بناء المساجد وتجهيزها بأغلى أنواع السيراميك، بينما الإنسان يعتصر ألما من شدة الفقر ولا يجد مغيث ولا معين، فأصبح الاهتمام بالبنيان أكثر من الإنسان الذي أكرمه الله وأسجد له الملائكة، إلا أن حاله من البؤس والفقر والمرض ما الله به عليم، فكان من الممكن إشباع هذه البطون وعلاج أولئك المرضى عوض الزيادة في رونقة المساجد وتزيينها، فما سبب هذا الانهماك في السعي الحثيث لبناء المساجد؟ هل هو ما يختلج النفس الإنسانية من رياء وسمعة أم أنه افتقاد للبوصلة الصحيحة الذي يصبح فيه الإنسان مولعا بذكر فضائله أمام الناس، فيُخيل في عقول من يمتلك رؤوس الأموال أن إدراك فضل العمل الخيري لا يتم سوى بالاقتصار على البنيان دون الإنسان!؟ ومن هنا انطلق البحث في أسباب هذه الانتكاسة التي تعرفها الجمعيات الخيرية وسبل تطوير أداءها.
المعرفة أساس حيوية المجتمع المدني:
يبدو للوهلة الأولى أن إنشاء الجمعيات شيء يسير وسهل، إلا أن غالبية من يترأسون هذه الجمعيات يعانون من الجهل العميق؛ فالإلمام بقواعد الاجتماع ونظم التسيير والتدبير هو أمر لازم لكل فاعل، فمهما ادعى أهالي هذه الجمعيات من المعرفة إلا أن أفعالهم لا تترجم إلمامهم بتلك العلوم الأساسية.
فلا شك في حسن نية الجمعيات الخيرية، لكن إغفال الفلسفة العامة للعمل الخيري القائم على ضرورة دراسة الحاجة المجتمعية التي تعتبر الركيزة الكبرى للعمل على فرز الشريحة المحتاجة إلى الدعم والرعاية وحفظ وجودها المعنوي والمادي، وهذه الفئة هي محل الدراسة والبحث في طرق ترقيتها من الوضعية الصعبة المتواجدة فيها، وهنا تظهر عبقرية الجمعيات ومدى تفاعلها الجيد في التمكين للفئات الاجتماعية المدروسة وتلبية الحاجيات الأساسية لديها، ولذا يجب أن تنصب فعاليات المجتمع المدني على إبراز إمكانياتها وقدراتها في تغطية هذا الجانب الذي تعمل عليه، فهو الأمر الذي وُجدت من أجله هذه الجمعيات، فولا الحاجة الماسة إلى سد هذه الفجوة لما تأسست من بداياتها، ولهذا وجب تسليط الضوء على الفهم المغلوط لدى الفئات المجتمعية التي تولت الاشتغال من داخل بوابة العمل الخيري والمساعدات الخيرية.
فعل الزكاة ودوره في تطوير الأداء الاجتماعي:
تعتبر الزكاة ركن من أركان الإسلام الخمسة، وبالتعامل التقليدي تحولت معها قضية الزكاة إلى مشكلة كبيرة في عالمنا، فالتطبيق السيء والمغلوط لركن الزكاة الذي يقصد به الإسلام الحد من مشكلة الفقر لدى المسلمين وتحسين الوضع الاقتصادي للأمة الإسلامية هو أحد معضلات التفكير التي يجب الاشتغال على حلها وإيجاد مخرج لها، فلو كانت عقول المسلمين عظيمة واستثمروا هذه الميزة التي تُمكِّنها الزكاة لكان حال استقلالنا المادي والإداري أفضل، فما محل الجمعيات التي تأخذ عطايا الزكاة لإنفاقها في الوجوه المستحقة؟! وأين حسن تسييرهم وإدارتهم لهذه الأموال الهائلة التي يتلقونها؟! وما الحلول الواقعية التي يقترحونها لمواجهة مشكلة الفقر عند المسلمين وتفعيل فريضة الزكاة في الحياة المعاصرة لتحقيق التنمية البشرية والاجتماعية؟! ولماذا لا تنهض هذه الجمعيات بالمشاريع الاقتصادية التي ينفقها عليها أهل الزكاة لتوظيف مختلف شرائح المجتمع البائسة لتلبية حاجياتهم، ولهذا كان من الضروري إعادة النظر في قضية الزكاة لإحياء مفهومها من جديد لتحقيق روح المراد منها حتى لا تبقى رهينة لثقافة الآباء والأجداد.
مؤسسة الوقف في قلب العملية الاجتماعية:
تقوم فكرة الوقف على عملية الاستثمار الاقتصادي التي يتم من خلالها تحويل أموال الزكاة والتبرعات والهبات والصدقات من الاستهلاك الطبيعي إلى عملية إنتاجية متجددة، مما يؤدي إلى تراكم الخيرات والإيرادات وبالتالي خلق أنشطة اقتصادية تنموية تلبي حاجيات المجتمعات في المستقبل بصورة فردية وجماعية تسهم في إيجاد حلول للمعضلات القائمة، وقد تمكنت عدة دول بالدفع قدما إلى إرساء ثقافة الوقف في الوعي الجمعي لمجتمعاتها على غرار ما قامت بها دول شرق آسيا كتركيا وماليزيا وسنغافورة وأندونيسيا مما جعلها تحتل مراتب متقدمة في تحويل ثقافة الإفناء الذاتي إلى الاستمرار الجماعي، وبالتالي تصبح قضية الوقف من الأمور المهمة التي ينبغي أن تلقى اهتماما بالغا من الجمعيات وأصحاب رؤوس الأموال بشكل عام في منطقة الريف المغربي التي تعمل على الحد من الفوارق الاجتماعية للانتقال إلى مرحلة التفعيل والانطلاق في كافة المجالات التي تهم حاجات الإنسان المعاصر.
أفكار عملية لسد احتياجات المنطقة:
بالنظر إلى منطقة الريف المغربي يبدو أن القوى المدنية والاجتماعية لم تستثمر هذا الأسلوب الحضاري في عملية سد الاحتياج الاجتماعي الذي يجتاح منطقتنا، بل تزايدت فيه الأزمات الاقتصادية مؤخرا بشكل كارثي ومهول، فهي منطقة استراتيجية في المغرب تتمتع بمزايا كبيرة جدا من حيث جغرافيتها وصلاحية أراضيها لأوجه كثيرة، كما أنها تتمتع بواجهة سياحية بريا وبحريا، وتجارية وزراعية ومنتجة ثقافيا، وتحتوي على مساحة فلاحية مهمة، إلا أن العاملين في المجال الخيري مازالوا لم يلتفتوا بعد للعمل على استثمارها؛ فأكثر الأراضي في المنطقة هي أراضي فارغة، وعدد هائل من ساكنة المنطقة فلاحين ولا أحد يعمل على تطوير آلياتهم ومساعدتهم في الحصول على مردود وإنتاج أكثر، ولذا ينبغي على الجمعيات والعاملين في الحقل الخيري سد الحاجات الضرورية للإنسان بتنمية المنطقة من خلال التفكير في إعمال نظرية الوقف في هذا المجال، مثل تمكين فَلاّحي المنطقة من شق الطرقات وهندسة الأراضي الزراعية وحفر الآبار فيها، ثم إمداد الفلاحين الفقراء بوسائل وتقنيات عصرية حديثة والعمل على تزويد الزراعة بالبنية التحتية للسقي بالتنقيط وتأمين الري للأشجار والنباتات بدون هدر لكميات الماء الزائدة عن الحد، وتقديم المستلزمات وتحسين جودة النباتات وتقديم العلاج الخاص بها لحمايتها من الإصابة بالأمراض التي قد تؤدي إلى موتها.
على سبيل الختم:
انطلاقا مما سبق تبرز استراتيجية العمل الخيري كآلية هادفة لسد مختلف حاجيات المجتمع، كما أن نفعه يتعدى الجانب المادي إلى الجانب المعنوي والقيمي ليعم أواصل المحبة والتعاون والود والسلم بدل الكره والافتراق والحسد والبغضاء، ومنه تتضح أهمية العمل الخيري في جودة المجتمعات وارتقاءها ونبلها وعطاءها، كما أنه يقلل من العجز الناتج عن سوء التدبير ليؤسس معالم امتلاك المهارات الحياتية لدى الإنسان، وبهذا الشكل يمكن تحقيق أدنى الأمن الغذائي لهم في ظل تصاعد وتيرة الغلاء المعيشي والتغيرات الاقتصادية المهولة، فالرحمة بالإنسان والنبات والحيوان هو الغاية من العمل الخيري.
بقلم: ريهام أزضوض، كاتبة مغربية
قسم
قضايا المجتمع