-->

خلاصات حول كتاب رسالة في اللاهوت والسياسة لباروخ سبينوزا

كتاب: رسالة في اللاهوت والسياسة؛ باروخ اسبينوزا

ترجمة وتقديم: د. حسن حنفي

مراجعة: فؤاد زكريا 

تلخيص: محسن الودواري

خلاصات حول كتاب رسالة في اللاهوت والسياسة لباروخ سبينوزا

الترجمة الهادفة

يعتبر حسن حنفي أن الغرض من مقدمته هو تطوير فلسفة اسبينوزا وذلك عبر ثلاث وسائل: 

• الوسيلة الأولى، تأكيد صدق تحليلات اسبينوزا، بإعطاء تحليلات جديدة، ودفع أفكاره إلى أقصى حدودها واستخلاص أبعد نتائجها، أي القيام بتحليل وتأويل متجدد يتناسب والظروف التاريخية أو السياق العام الذي يعيشه المفكر، من أجل الكشف عما تركه سبينوزا غامضا نظرا لظروف عصره، لأن ميزة الفكر الخصب تسليط الضوء عن أفكار سبينوزا برؤية مغايرة ومختلفة، لكن دون الخروج عنه. 

• الوسية الثانية إلحاق اسبينوزا بالتراث الفلسفي في القرن السابع عشر، سواء فيما يتعلق باتباعه المنهج الديكارتي، أو فيما يتعلق بالنقد التاريخي للكتب المقدسة، ثم إلحاقه بالتراث النقدي بصفة عامة، أي ما يتعلق بالنقد الفلسفي والنقد العلمي، لأن العناصر التي يرتكز عليها سبينوزا في بحثه الفلسفي، أساسها المنهج الديكارتي القائم على الرياضيات والهندسة خصوصا، والنقد التاريخي، ثم أيضا النقد العلمي والفلسفي. 

• والوسيلة الثالثة هو الاحتفاظ بالمنهج الذي عمل عليه اسبينوزا، فيما يتعلق بتفسير الكتب المقدسة، وجعلها المنطلق لتحليل أي تراث ديني، مثلا استبدال التراث الإسلامي أو المسيحي بالثرات اليهودي الذي اشتغل عليه سبينوزا مع الاحتفاظ بالمنهج اسبينوزي. 

سبينوزا وديكارت أو الإطار المعرفي لرسالة اسبينوزا

تمكن اسبينوزا من تطبيق المنهج الديكارتي القائم على الهندسة الرياضية في المجالات التي استبعدها ديكارت عن اهتمامه، وهما المجال الديني والسياسي، أي الاشتغال على الكتب المقدسة والكنسية والعقائد والتاريخ المقدس، وأيضا النظام السياسي والحريات، في الوقت الذي اعتبر ديكارت أن حقائق العقل لها نفس غاية حقائق الإيمان، من خلال إثباته لحقائق الدين ببراهين عقلية لمن هم خارج العقيدة الدينية لكي يتمكن من إقناعهم، وبالتالي فهذه الحقائق تختلف فقط في الوسائل كما يقول في رسالته المقدمة إلى رجال اللاهوت بكلية أصول الدين بباريس آنذاك، ويعتبر ديكارت أن الله هو الضامن لصدق الحقائق، لأنه يتنزه عن كل صفات النقص، التي من دونها يمكن أن تزيد من احتمال الذات لتكون في ضلال، وبهذا المعنى يقيم ديكارت العلم على وجود الله وصدقه، وأنه هو الضامن لوجود العالم، من خلال الذات المفكرة التي تحكم على وجود الأشياء. 

وإذا كان ديكارت استثنى الوضوح والتميز في المجال الديني والاجتماعي والسياسي، لكونهم لا ينطبق عليهم البساطة والوحدة كما هي القواعد الهندسية الرياضية القائمة على البديهيات، فإن اسبينوزا طبق منهج الأفكار الواضحة والمتميزة في ميدان الدين والعقائد، لأنه لا يكفي أن يكون العقل أعدل قسمة بين الناس، بل يجب أن يكون أفضل شيء في وجودنا ويكون في كماله خيرنا الأقصى، وبالتالي سيعمل على وضع الوضوح والتميز باعتبارهما منهجية في تفسير التراث الديني، وهو ما سيطبقه في النقد التاريخي للكتاب المقدس، يفصل من خلاله ما هو صحيح وما هو زائف. 

كما يستعمل اسبينوزا هذا المنهج في المجال السياسي لدراسة أنظمة الحكم والمقارنة بينها، لينتهي إلى أن النظام الديمقراطي هو أكثر الانظمة اتفاقا مع العقل ومع الطبيعة، لأنه نابع من العقل الإنساني، أي منسجم مع قواعد الطبيعة باعتبار أن قوانين العقل يجب أن تكون منسجمة مع قوانين الطبيعة، لأنها معرفة بأسباب الأشياء، وبالتالي، فإن النظام الديمقراطي سينسجم مع العقل والطبيعة، ومنه فإن اسبينوزا ربط الصلة بين الفكر والواقع، وبين الدين والدولة.

موضوع الرسالة، الحرية الفكر وعلاقتهما باللاهوت والسياسة

تهدف الرسالة إلى هدفين؛ الهدف الأول، هو إثبات أن حرية الفكر لا تمثل خطرا على الإيمان، بمعنى آخر أن أساس الإيمان هو العقل، والهدف هو إثبات أن حرية الفكر لا تمثل خطرا على سلامة الدولة، أي العقل هو أساس كل نظام سياسي تتبعه الدولة، ومنه بناء الدولة الديمقراطية التي تنسجم مع العقل. 

ومن هنا يتبين أن المنطلق الأساس الذي ينطلق منه اسبينوزا هو إعطاء مكانة هامة للعقل، في تأطير الإيمان أولا، أو ما يمكن أن نسميه بعقلنة الدين او الإيمان، وإفراغه من كل النزوعات الخرافية الساذجة، ثانيا جعل العقل أساس كل التشريع السياسي، وبالتالي تبوأه مكانة مهمة في كل التشريعات والقوانين المتعلقة بالنظام السياسي، ومنه إفساح المجال لحرية الفكر في السياسة والاجتماع، لأن سلامة الدولة مرتبطة أساسا بحرية الفكر، وليس العكس، فغياب العقل في فهم الظواهر، وتغطيتها بالطابع السحري، أو ما يمكن أن نسميه بروحنة الطبيعة تجعل تفكير الأفراد تفكيرا انفعاليا تسود فيه الأهواء على العقل، وبالتالي يدنو مستوى الفرد المعرفي إلى معرفة قائمة على الانفعالات والعواطف، وعلى رأس هذه الانفعالات الخوف والرجاء، بحيث يتذبذب الشعور الديني بينهما أو بين الرهبة والرغبة، وبالتالي يصير الإنسان أسير التفسيرات القائمة على الثنائية الميتافزيقية واللاهوتية وهي ثنائية الخير والشر، ولذلك يعجز الإنسان في فهم الطبيعة والتأثير فيها عقليا، ومنه يعمل على استدعاء الأرواح، أو طلب العون المباشر، أو الصلاة لدرء الكوارث كالجفاف، والزلازل والفيضانات والأوبئة، فهذه الأفعال السلبية تعبر على أن الإنسان صار عاجزا أمام الطبيعة، وصار عقله غير مستوعبا لقوانينها لكي يسيطر عليها ويتوقع مآلاتها من خلال العقل، والخوف أيضا غير مرتبط بالخرافة أو العجز، بل ينشأ عن نقص في الشجاعة، ويكون التأليه نتيجة هذا النقص، بحيث يلجأ المتدين إلى قوة مفارقة خارجة عن الطبيعة لكي تمده بالقوة والشجاعة والعزيمة، لأنه يفتقدها، نظرا لكونه لا يفهم أسباب الظواهر الطبيعية المطبوعة بالنسبة إليه بأرواح خفية، وبالتالي تضعف إرادته أمامها لكي يواجهها، وقد يقوم أيضا الإيمان على الكراهية والتعصب. فاسبينوزا يعتبر بعض المؤمنين هم أكثر قدرة على الكراهية، وأشدهم تعصبا، وبالتالي أقدرهم على فعل الجريمة كما وقع له مع الحاخامات اليهودية، ومحاولة اغتياله من قبل يهودي متعصب. 

وقد يقوم الإيمان على المذلة والغرور، أي أن المؤمن إذا كان في حاجة إلى شيء ذل نفسه، وإذا كان غنيا عن الناس ركبه الغرور، بمعنى آخر أن الحاجة إلى طلب شيء ما تدفع المؤمن لكي يذل ذاته، ويستصغر نفسه من أجل نيلها، وإذا كان يمتلكها ويحوزها تجعله يراء في القيام بها، ويتستر الإيمان على الغنى بالتفاوت في الرزق، أي أنه يخفي سوء العدالة الاجتماعية في مفهوم التفضيل في الرزق، (وفضلنا بينكم في الرزق) وبالقضاء والقدر، بحيث تجعل المؤمن موضوع في سكة من الحياة لا مفر له من غيرها (ولن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا) كما يتستر على الاشباع الجنسي، بحيث يظهر المؤمن أو المتدين هو غنى عن الجنس، بل قد يعتبره من الرذائل، أو قد يؤطره وفق ما يناسبه، مثلا نجد في الثقافة الإسلامية يدافع المتدين عن التعدد في النساء، ولكن يرفض العلاقة الجنسية خارج إطار الزواج بين راشدين، باعتبارها علاقة غير شرعية، ومنه لا يتعامل مع الجنس كحق طبيعي يلزم أن يتعامل معه الإنسان على أنه من الضروري أن يتم إشباعه كباقي الحاجات الطبيعية مثل النوم والأكل والشرب. 

وبالتالي فالخرافة والعجز والوهم، هي من أسباب الوقع في التقديس، أي تقديس موجود متعال خارج الطبيعة، يتدخل فيها كما يشاء، أي كما يفعل الحاكم المطلق أو الملك الذي يخضع للأهواء والانفعالات، وهنا نلاحظ كيف ربط اسبينوزا غياب العقل في فهم الطبيعة، وأبعادها الاجتماعية والسياسية والدينية، بحيث أن غياب العقل تجعل الإنسان يقع في الخرافة، ومنه في الاستبداد السياسي، وسوء العدالة الاجتماعية، وغياب الحرية الفكرية، ولذلك فاعتبار المقدس خارج العالم عجز عن إداركه داخل العالم، خاصة إذا أصبح المقدس أمرا مرادفا للسر، أو هو الوقوع في الوثنية المجردة أو الوثنية الحسية. 

خلاصات حول كتاب رسالة في اللاهوت والسياسة لباروخ سبينوزا

وبهذا ينتقد اسبينوزا الدين القائم على المظاهر والألقاب الكهنوتية التي تجعل الجمهور يظن ان الدين هو المناصب في المعابد التي يعيش منها رجال الدين، ويصبح بالتالي الكهنوت إغراء للجميع، تشتاقه أشد القلوب قسوة، ويصير الدعوة إلى الله مبنية على الطمع، ومنه تتحول المعابد إلى مسارح التمثيل، ورجال الدين إلى خطباء محترفين للتمثيل، ويسمى هذا النوع من التدين القائم على المظاهر عبادة للأوثان لا عبادة لله خالصة.

وإذا كان الدين كموقف غير طبيعي، أي كموقف غير مبني على فهم أسباب الأشياء، فإن التدين المرتبط به قائم على مجموعة من الخزعبلات التي يظنها المتدينون تعاليم إلهية كما هو الأمر بالنسبة للمتصوفة، وهو على خلاف تدين النور الفطري، الذي يعتبره المتدين مصدرا للإلحاد وللبدع، فإلحاد الفلاسفة الذين يعتمدون على النور الفطري هو الإيمان الصحيح، وإيمان المتدينين القائم على الأوهام والخرافات الوثنية الحسية هو الإلحاد الصحيح. 

ويتجلى الهدف الثاني للرسالة من خلال دراسة الصلة بين اللاهوت والسياسة أو الدين/ الإيمان والدولة، بمعنى آخر فهم العلاقة المتداخلة بين السلطات اللاهوتية والسلطات السياسية، ويشير مفهوم السلطة هنا إلى القوة التي يمارسانها كل من الكنيسة أو رجال الدين من خلال الوهم الذي تخلقه هذه الطبقة للجمهور، وما يتبعه من علاقات اجتماعية وسياسية، بحيث تعمل على منع استعمال العقل في المجتمع والدين والسياسة، أي منع حرية الرأي، وبالتالي تكرس للاستبداد السياسي والنزوع نحو النظام السلطوي، الذي يربط العلاقة مع رجال الدين، وذلك لكي يخلق لنفسه هيبة وسط المجتمع، ولهذا يعتبر اسبينوزا حرية الرأي ضرورية للإيمان الصحيح، وضرورية أيضا للسلام الداخلي في الدولة، لأن حرية الرأي هي ركيزة الرأي العمومي، وفي هذا الصدد إذا قضي على حرية الفكر قضي أيضا على الرأي العمومي الذي يعمل على المراقبة والمحاسبة والتوبيخ، لأنه هو الراصد والمتتبع لكل ما يحدث في الدولة خاصة في الأمور الداخلية، وبالتالي تصير الدولة بلا ركيزة داخلية، أي بلا رأي عام، يفعل الحاكم ما يشاء، ومنه ستنشأ الجماعات السرية المناهضة للحكم، فيقضى على أمن الدولة، ولهذا يجب على السلطات السياسية ألا تتدخل في الحريات الفردية لأن هذه الحريات هي حق طبيعي للفرد، وكل فرد حر بطبيعته، وهو ضامن لحريته، لأنه مسؤول عن نفسه. وتنشأ الفتن عندما تتدخل الدولة بقوانينها في الأمور النظرية أي الأمور المرتبطة بحرية الفكر والاعتقاد، ولذلك يجب عليها أن تنأى عن هذه الأمور، وتضع قانونا يستطيع من خلاله كل مواطن أن يعبد الإله الذي يشاء كما يشاء، وأن يتصوره كما يريد، ويعبر عن معتقده كما يريد، ومنه لا يحق للدولة أن تتدخل في حرية الفكر أو في الرقابة عليه، بل يجب أن تكون حرية الفكر والاعتقاد مكفولة للمواطنين جميعا، وتكون الدولة هي الراعية لهذه الحرية، بمعنى آخر أن تحوز الدولة مشروعية حرية الفكر والاعتقاد، ولا تكون في يد أي جماعة مهما كانت، كما لا ينبغي لها أن تكون دولة طائفية تنتسب لدين معين، بل دولة علمانية تكفل حرية الرأي للجميع، لأنها ضرورية للمجتمع والدولة ويعتبر اسبينوزا أن القضاء على حرية الفكر هو قضاء على الدولة، خصوصا وأن القانون الإلهي يمنح الحرية للجميع، ( مثلا من شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر، لقد تبين الرشد من اللغو).

فالدولة باعتبارها كيان سياسي معنوي تنشأ بعقد اجتماعي بين الأفراد يفوضون سلطتهم إلى الدولة كي تقوم بحمايتهم والدفاع عنهم، لأن سلطة الدولة ممثلة لسلطة الأفراد، لذلك لا يجوز وهي ممثلة للشعب أن تعمل ضده، أو أن تقضي على حريته التي فوضها له بإرادة حرة، لأن الحرية هي أساس العقد الاجتماعي بين الأفراد فيما بينهم، وفي علاقتهم مع الدولة.

إن موضوع رسالة اسبينوزا لا يتعلق فقط باللاهوت أو السياسية أو بالعلاقة بينهما، بل دراسة صيرورة الوحي في التاريخ عندما تتحقق النبوة في فترة معينة، وعند شعب معين، كما هو الأمر بالنسبة للعبرانيين، حيث يأتي الوحي للتغلب على الطبيعة السائدة في الشعب، أي الانفعالات والأهواء التي تتحكم فيهم فيرجعهم إلى المنهج السليم المبني على النور الطبيعي، فينجح شيء ما، لكن تنتهي الطبيعة السائدة في التغلب على الوحي، ومن ثم فموضوع الرسالة متعلق بالتاريخ المقدس لبني إسرائيل.

<><>

النقد التاريخي للكتب المقدسة

يعتبر النقد التاريخي للكتب المقدسة أحد المناهج العلمية التي وضعتها الفلسفة الحديثة، وذلك من أجل تقييم النص الديني التراثي، وإصدار حوله حكما نقديا بشأن صحة النص الديني، الذي قد يكون تعرض للتحريف والتزييف أو الخطأ من قبل النساخ والكتبة والرواة، ويأتي النقد التاريخي لحسم مشكلة الصحة التاريخية التي تشمل أولا إثبات صحة نسبة النص إلى مؤلفه، أي أصالة النص ومطابقته مع كاتبه والحدث الذي يرويه من خلال معايشته له، ويسمى هذا النقد عند علماء الحديث في الإسلام السند، ويسمى عند النقاد بنقد المصادر، وثانيا إثبات تكامل النص من حيث المضمون، ويسمى عند علماء الحديث بالمتن أو بإعادة تكوين النص عند النقاد، أي وضع النص التراثي موضع تساؤل ونقد، ومعرفة هل هو نص أصلي أم نص منسوخ، ثم هل هو نص يتطابق والأحداث التاريخية، أم نص يزيف الأحداث التاريخية. 

ويرى اسبينوزا أنه لا فرق بين الظاهرة الطبيعية والنص الديني، وكلاهما يخضعا للعقل وقواعده، ومنه كان النقد باسم العقل أكثر منه باسم التناقضات الداخلية في الرواية، بحيث يتم نزع الطابع الديني والأولوهي عن النص، وإخضاعه للنقد العقلي. كما يعتبر النقد التاريخي أهم الأسباب في نشأة حركة التجديد الديني في الفكر المعاصر، بحيث أصبح النص الديني يعبر عن التجارب الحية للجماعة التي نشأ فيها النص، وهذا يوضح أن النص المسمى النص الديني هو نتيجة تجارب شخصية وجماعية لجماعة بشرية معينة في جغرافية ما، ومن ثم كان لابد من وضع النص في الحياة أي وضعه في السياق الاجتماعي للجماعة البشرية، وذلك من خلال دراسة المكونات النفسية للشعور الجماعي الأول، أي القيام بدراسة سيكولوجية للجماعة المؤسسة للتراث الديني، من خلال تجاربهم الشخصية، وعقدهم النفسية ورغباتهم ومصالحهم، التي عاشت الجماعة الأولى أفكارها، (مثلا القيام بدراسة سيكولوجية للجماعة المؤسسة من النبي والصحابة من خلال التراث الديني الذي خلفوه أو الذي كتب عنهم ومن خلاله يمكن فهم الاسلام).

ويتميز اسبينوزا بكونه جمع بين كل أنواع النقد التي ظهرت، كالنقد العلمي والذي يقوم على استخدام العقل الرياضي الهندسي، وهو نقد رياضي يقوم على استعمال النور الفطري أي العقل، كنور طبيعي في الإنسان، وذلك بهدف تحليل القوى من إدارك وتخيل وانفعال، ويرى اسبينوزا أن النقد التاريخي سابق على الإيمان بالمصدر الإلهي للكتاب المقدس، وهو الضامن لصحته من حيث هو وثيقة تاريخية تحتوي على الوحي الإلهي، وتحتاج إلى تحقيق تاريخي مضبوط، أي أن النقد التاريخي يحاول أن يكشف النص الديني في إطار صيرورته التاريخية، وكشف كل التناقضات الداخلية التي يمكن أن يخفيها رجال الدين، ويضعونها بمثابة أسرار إلهية (مثلا الإعجاز العلمي في القرآن) ولهذا فالنقد التاريخي الموضوعي يزيل القناع عن كل تزييف تاريخي تقوم به طبقة رجال الدين المحافظة. وفي هذا الإطار يحلل اسبينوزا أسفار التوراة الذي يمثل العهد القديم سفرا سفرا، لكي يبين نصيب كل منها من الصحة التاريخية، ويستخلص أن التوراة لم يكتبه النبي موسى، (وهذا الأمر ينطبق على المسيحية والإسلام) وإنما شخص آخر عاش بعده بمدة طويلة، وذلك لبعض الأسباب التي يذكرها ابن عزرا مثل:

  1. لم يكتب موسى سفر التثنية لأنه لم يعبر نهر الأردن 
  2. كان سفر موسى مكتوبا على حائط المعبد الذي لم يتجاوز إثنى عشر حجرا، أي أن السفر كان أصغر بكثير مما لدينا الآن
  3. قيل في سفر التثنية: " وقد كتب موسى التوراة ولا يمكن أن يقول موسى ذلك إن كان هو كاتبها. 
  4. في سفر التكوين، يعلق الكاتب قائلا: " وكان الكنعانيون في هذه الأرض" مما يدل على أن الوضع قد تغير وقت تدوين كاتب هذا السفر، أي بعد موت موسى وطرد الكنعانيين، وبذلك لا يكون موسى هو الراوي.
  5. في سفر التكوين سمى "جبل موريا" جبل الله، ولم يسمى بهذا الإسم إلا بعد بناء المعبد، وهو ما تم بعد عصر موسى. 
  6. وفي سفر التثنية. وضعت بعض الآيات في قصة أوج، توحي بأن الرواية كتبت بعد موسى بمدة طويلة؛ إذ يروي المؤلف أشياء حدثت منذ زمن بعد. 

ويضيف سبينوزا على ملحوظات ابن عزرا هذه الملحوظات أخرى: 

  • أكتابة الأسفار بضمير الغائب، وليس بضمير المتكلم
  • مقارنة موت موسى، ولحده والحزن عليه بموت الأنبياء التالين له. 
  • تسمية بعض الأماكن بأسماء مختلفة عما كانت عليها في عصر موسى
  • استمرار الرواية في الزمان بعد موت موسى 

ومن هنا يتبين أن أن النص الديني خضع لتحريفات وتزييفات، والتوظيف لكل حسب إرادته، وقد تكون هذه التحريفات، إما عن قصد ونية، وإما عن حسن نية، وبالتالي يمكن أن تتغير الواقعة، أو تخترع من خلال الرواية مثل سفر أيوب الذي يظن البعض أن موسى هو مؤلفها، وأن القصة كلها مثل، خصوصا وأن الأنبياء دائما ما يستخدمون الأمثال والرموز في القصص. وقد يتم استبدال النص الحقيقي بنص آخر، أو قد يتم خلطه بنص آخر.

<><>

منهج التفسير:

يتكون الشعور الديني من الشعور التاريخي، وهو منهج يقوم بنقل الوحي شفاهيا أم كتبيا، وضمان ضبطه عبر التاريخ. ويٌدْرس منهج التفسير كشعور فكري، ومهمته فهم الوحي بعد التأكد من صحته، وتفسيره وتحويله إلى أسس نظرية للسلوك، وأخيرا الشعور العملي، الذي يقوم على تحويل الوحي بعد التأكد من صحته وفهم معناه إلى أنماط السلوك، والحياة العملية في دراسته للصلة بين الدولة، ونظام الحكم.

ويرتكز منهج التفسير عند اسبينوزا أيضا على الحرية في التفكير، إذ لكل فرد الحق في التفسير والاعتقاد كما يشاء، ولايمكن تقييد التفسيير أو التأويل الديني لصالح فرد أو طبقة معينة، وهنا يرفض اسبينوزا سلطة الكنيسة في الـتأويل والتفسير، وما تزعم به من حق في امتلاكها مفاتيح تفسير الكتاب المقدس، ومن هذا المنطلق ينطلق اسبينوزا من المبدأ اللوثري القائل بالكتاب وحده، أي اعتبار النص الديني هو المنطلق في التفسير، والغاية من هذا المبدأ هو فتح مجال حرية الفكر والتفسير، وعدم هرطقة التفاسير التي تكون خارج نسق السلطة الدينية، أي عدم تكفير الأراء التي تكون خارجة عن النظام الذي يبتدعه رجال الدين، حيث يعتبر سبينوزا أن حيازة ملكية التفسير لدى الكنيسة ما هو إلا تكييف الكتاب حسب عقائدهم الخاصة، أي حسب ما يحمي ويحافظ على مصالحهم وسلطتهم الذاتية، مثل ما يسمى بالإجماع في الأمة عند السنة الإسلامية، أو عصمة المرشد عند الشيعة، كما تم تكييف الكتاب من قبل حسب عقلية الأنبياء، وحسب التكوين النفسي للجماهير في عصره، كما ينتقد اسبينوزا منع هؤلاء على الناس حرية البحث والتفكير واعتبارهم، أعداء الله والبشر، لأنهم يختلفون معهم في الآراء والمعتقدات. 

ومن جهة أخرى يرفض اسبينوزا التفسيرات التي تقوم على الخرافة والأوهام، وتجبر الناس على الاعتقاد بها، ثم تلجأ إلى السلطة الإلهية المفارقة، حتى لا يتم النبش والحفر فيها، وتظهر أخطائها، واللجوء إلى الإيمان بالخرافات يقابله احتقار العقل، وبالتالي منع الحرية الفكرية، وذلك من أجل الهروب إلى الأسرار والغموض والتأويلات التي تقوم على إخراج الكلام عن موضعه، ووضع معتقدات لا عقلية صادرة عن انفعالات النفس. وبالمقابل يقترح اسبينوزا منهجا آخر لتفسير النص مثل المنهج الطبيعي القائم على الملاحظة والتجربة، وجمع المعطيات اليقينية، ووضع الفروض، واستخلاص النتائج، وفيما يتعلق، بالنص المكتوب يكون المنهج مرتكزا على استقصاء الحقائق التاريخية الصادقة، والانتهاء منها إلى أفكار مؤلفي الأسفار، وبذلك نضمن صحة النتائج، كما نضمن صحة المعرفة التي نحصل عليها بالنور الفطري، لكن هناك مواضيع لا يمكن معرفتها بالنور الفطري، وهي المواضيع المتعلقة بالوقائع الخارقة للعادة، إذا تكيف حسب أراء الرواة، واحكامهم السابقة، بمعنى آخر المواضيع التي تتعدى حدود المعرفة الإنسانية، مثل الخوارق التي تتجاوز قانون الطبيعة 

خلاصات حول كتاب رسالة في اللاهوت والسياسة لباروخ سبينوزا

يتضمن البحث التاريخي ثلاث خطوات وهي: 

  • معرفة خصائص وطبيعة اللغة التي دونت بها الأسفار والتي تحدث بها مؤلفوها، وذلك من أجل معرفة النصوص حسب الاستعمال المتداول بها، أي معرفة مبادئ ومنطلقات اللغة وقواعدها وأساليبها وطرق بيانها، ومعانيها، إلا أن اسبينوزر يرى أن هذا غير ممكن في اللغة العبرية لأنها تفتقد لهذه المنطلقات والمبادئ، بالإضافة إلى طبيعة هذه اللغة من حيث عباراتها الغامضة، ولا يمكن لأي منهج توضيحها للأسباب التالية:
  • استبدال الحروف التي لها نفس المخرج، الشفاه، الأسنان، الحنجرة، الحلق، اللسان؛
  • غياب الأزمنة (الحاضر، الماضي الناقص، الماضي التام، المستقبل السابق، في الصيغة الإخبارية، وغياب جميع الأزمنة إلا الحاضر في صيغة الأمر، والصيغة المصدرية، وغياب الأزمنة جميعها في الصيغة الإنشائية)؛
  • غياب الحروف المتحركة، وهي الحركات كالكسرة والفتحة والضمة والسكون، بالإضافة إلى حركات التنوين في اللغة العربية، (the vowel lettres)؛ 
  • غياب التنقيط والتشكيل لبيان أجزاء الكلام، كما كان الأمر مع اللغة العربية في بدايتها؛
  • بالإضافة إلى غياب النسخة الأصلية للكتاب خصوصا الإنجيل المكتوب باللغة العبرية؛
  • جمع النصوص وفهرستها في موضوعات رئيسة، حتى يمكن استعمال النصوص التي تتعلق بنفس الموضوع مرة واحدة، وذلك لكي يسهل استعمالها حسب الموضوع، والسياق، بالإضافة إلى الارتباط الحرفي والاستعمال اللغوي للآية، بصرف النظر عن اتفاقها أو اختلافها مع العقل، وهذه الطريقة تجعل الباحث أو القارئ يعرف المستوى الفكري للأنبياء فيما يتعلق بالأمور الغير الحسية، والتي لا تدرك إلا بالخيال، أما الأمور النظرية المتعلقة بالمجهود الذهني، نستطيع بلوغها بسهولة مثل التعاليم الخلقية، لأنها عامة وبسيطة تحتاج فقط إلى النور الفطري؛
  • معرفة الظروف والملابسات التي كتبت فيها الرواية، أي معرفة أسباب النزول، والغاية من السفر، ومناسبته، ثم مصير جمعه، ونقله ونسخه، والاختلافات بين النسخ وتقنينها وتحليلها، حتى يمكن التمييز بين آيات التشريعة (الشريعة) وآيات الأخلاق (السلوكات والمعاملات) بالإضافة إلى معرفة حياة المؤلف السياق الذي عاش فيه كالتقاليد والأخلاق، ومعرفته اللغوية والأدبية. 

إلا أن اسبينوزا يرى أنه أمام هذه الخطوات صعوبات كثيرة، وذلك لعدم معرفة الظروف الخاصة لكل الأسفار المقدسة، أي أسباب النزول وسياقه، وجهل مؤلفي كثير من الأسفار، ونساخها، والاختلافات فيما بينها، خصوصا الأسفار التي تروي أشياء غامضة يصعب إدراكها مع قصد مؤلفها. وبناء على المنهج الطبيعي الذي ننطلق فيه من الأشياء الأكثر عمومية، سيتم نفس الأمر فيما يتعلق بفكر الأنبياء والروح القدس، أي الانطلاق مما أوحي لجميع الأنبياء كعقيدة أبدية نافعة للبشر جميعا، بمعنى آخر الانطلاق من فكرة الله القادر الذي تجب عبادته وحده، والذي يرعى كل شيء، ويحب من يحبون الجار كحبهم لأنفسهم، وبعد ذلك يمكن الانتقال إلى الموضوعات الأقل شمولا، مثل السلوك في الحياة، وهو ما يمكن استنباطه من المبادئ العامة، وفي حالة ما وقع تعارض يحل عن طريق الرجوع إلى الموقف التاريخي الذي نشأ فيه النص من أجل استجلاء معنى النص، ويرى اسبينوزا أيضا أنه في حالة لم يكن هناك تطابق بين وجهتي النظر لأنبياء معينين، لا يجوز استنتاج أقوال نبي من نصوص واضحة لنبي آخر.

إن منهج التفسير على المستوى اللغوي لمعاني الألفاظ ، يجعل من الصعوبة بمكان تغيير معنى الكلمة أو اللفظ، لأن اللفظ أو الكلمة يحكمها المعنى الطويل، أي الصيرورة التاريخية التي نحتت وتبلورت فيها الكلمة، لأن اللغة محفوظة، ومن الصعب إعطاء الكلمات معاني مخالفة لمعانيها القديمة، لذلك لا يمكن تحريف معاني الكلمات بالرغم من جواز تحريف النصوص، وتغيير فكر الأنبياء بتغيير النص أو بإساءة التأويل. وبناء عليه فإن منهج التفسير لا يتطلب إلا النور الفطر الذي يقتضي استنباط الأشياء الغامضة من الأشياء الواضحة، ومن يعتبر أن تفسير الآيات يستدعي نورا فوق الطبيعة، لأن صعوبة التفسير لا تأتي من عدم كفاية النور الفطري كما يدعون، يعتبره اسبينوزا تكاسلا وإهمالا في المعرفة التاريخية والنقدية للكتاب، وعن كل ما يناقض العقل والطبيعة يجب حذفه، لأنه زيادة من الراوي، لإثارة النفوس، وتحريك الخيال، وفي هذا الجانب يرفض اسبينوزا التأويلات المفرطة في المجاز التي تعتبر أن لكل نص معاني عديدة قد تكون متعارضة، ويكون أصوبها أكثرها اتفاقا مع العقل، كما يقول موسى بن ميمون، فإذا تعارض النص مع العقل، وجب تأويل النص، لأن هذا المنهج في التعامل مع النص يخلق طبقة كهنوتية تحتكر سلطة النص، وتستحيل معرفة العامة لحقائق الوحي، وهذا يفترض مسبقا اتفاق الأنبياء مسبقا، وكأنهم فلاسفة كبار، وهذا غير صحيح، لأن الأنبياء جهلوا كثير من الحقائق، واستعملوا أسلوب التخييل للتأثير على النفوس.

<><>

النبوة:

يتناول اسبينوزا موضوع النبوة، باعتبارها موضوعا يتعلق بوحي يكشف عن ذاته للنبي، فيصير هذا الوحي، وحيا مكتوبا فيما بعد، أي أن هناك فعل مزدوج للنبي. في الجانب الأول يعبر عن تلك العلاقة العمودية التي تربط النبي بالوحي، وهذا الموضوع يرتبط بمبحث ميتافزيقي افتراضي، والجانب الثاني يرتبط بالعلاقة الأفقية التي تربط النبي بالرواة ، إذ ينتقل الوحي من البعد الميتافزيقي اللاهوتي إلى البعد التاريخي للوحي بحيث يدون فيها الوحي في النصوص إلى أن يتم تقنينه، أي تجسيد الوحي في النص التاريخي، وهذا الجانب يتعلق بمبحث تاريخي علمي، يتحدث عن انتقال الرواية التي كانت موحية للنبي في التاريخ، ومنه يصير هذا المبحث هو المنطلق الموضوعي للمبحث الأول، بمعنى آخر إذا أردنا أن نفهم الجانب الأول من الوحي، يجب دراسته من الجانب الثاني. 

لم يتطرق اسبينوزا للجانب الأول من النبوة إلا قليلا، إذ يفترض أنه إذا كانت النبوة تعني تدخل الله في قوانين الطبيعة، فإن ذلك لم يحدث نهائيا، لأن قدرة الله هي قدرة الطبيعة، وصفات الله هي صفات الطبيعة، كما أن قدرته لا تفسر شيئا لأن السبب المتعالي لا يمكنه تفسير واقعة طبيعة، وأنها ليست هي السبب في تفسير النبوة، وبالتالي فالروح الإنسانية وطبيعتها هي السبب الأول في وجود الوحي، لأنها قادرة على تكوين بعض الأفكار تفسر بها طبيعة الأشياء، وتدل بها على الحياة الصحيحة، فلو لم تكن هناك روح إنسانية لما كانت هناك نبوة، ولو لم يكن هناك إنسان، لما كان هناك وحي، بمعنى آخر أن الإنسان هو الذي يستطيع أن يتخيل ويتصور أشياء، أي هو الذي يعبر عن النبوة، بحيث أن الوحي هو كلام الله للبشر على لسان الأنبياء، أي أن الله هو الذي يكشف عن نفسه للأنبياء، فالوحي إذن هو كشف أو رؤية، فقد يكشف الله عن نفسه وعن الوحي للأنبياء بالكلمات، أو بالرؤية، أو هما معا، وتكون هاتان الوسيلتان إما حقيقة من الله، أو خيالا ووهما، واختراعا من صنع النبي، إذ يتخيل النبي وهو في ساعة اليقظة أنه يسمع أو يرى شيئا لا وجود له في الواقع، وهذا يعني أن النبي يتخيل الوحي إما عبر السمع، أو الضوضاء أو الحلم، أو عبر الخيال، أي عبر المظاهر الحسية، ولذلك لا تتطلب هبة النبوة إلا خيالا خصبا، ويرى اسبينوزا أنه إذا كان موسى قد تحدث مع الله وجها لوجه، فإن المسيح قد اتصل بالله الروح بالروح، اي المسيح طريق المعرفة وليس مسيحا شخصيا أو مسيحا كونيا.

ومهمة النبي هي التبليغ والتعبير، أي صياغة الوحي كمعاني صرفة، بأسلوبه وبطريقته وباستدلالاته الفطرية أو المكتسبة حسب مستوى فهم العامة. ولم يرسل الله وحيا بالمعنى واللفظ، ولكنه أعطى المعنى فقط يقذفه في قلب النبي الذي يقوم بصياغته في ألفاظ من عنده، أي أن النبي يقوم بترجمة المعاني المجردة والمتعالية للوحي، إلى معاني لفظية تتفق مع مستوى فهم العامة الذين يبلغهم الرسالة وذلك باستخدام القصص والروايات الحسية. لذلك تجاوز الأنبياء معرفة الأشياء بالحدود العقلية، وعبروا عنها بالرموز والأمثلة، كما عبروا عن الحقائق الروحية بالتشبيهات الحسية، وهو الأسلوب المتفق مع طبيعة الخيال، لأن الخيال غامضا متقلبا، وبالتالي لم يكن للأنبياء فكرا أكمل بل خيالا خصبا، فمن يتميزون بالخيال الخصب يكونون أقل قدرة على المعرفة العقلية، ومن يتميزون بالعقل يكونون أقل قدرة على الصور الخيالية. ويتكيف الوحي حسب عقلية وخيال الأنبياء ومزاجهم وقدرتهم العقلية، كما يتكيف بعد ذلك حسب معتقدات الحواريين والدعاة وأساليبهم في نشر الدعوة، وبالتالي يتكيف حسب عقلية الجمهور وطبقا للمستوى الثقافي للعصر، لأن الأنبياء لم يقولوا شيئا عن صفات الله إلا ما اتفق مع المعتقدات الشائعة للجمهور ومع البيئة الثقافية للعصر (مثلا أنسنة الله، أو الحج الإسلامي لا يختلف كثيرا عن الحج في عهد الجاهلية). بالإضافة إلى هذا لم تجعل النبوة الأنبياء أكثر علما بل تركتهم وأفكارهم السابقة، ولذلك لا يجوز لنا تصديقهم في الأمور النظرية والعلمية مثلا الآيات التي تقول بأن الشمس تدور والأرض ثابتة، يعبر هذا الأمر بالنسبة لاسبينوزا بجهل الأنبياء الأسباب الحقيقة للظواهر الكونية، لكن لا ضير أن يجهل الأنبياء الحقائق النظرية مثلا فيما يتعلق بالأرض والشمس، وقوانين الطبيعة، لأن الانبياء ليسوا علماء، او علماء الطبيعة، بل هم بشر، يستعملون أخطاء البشر كصور فنية للتعبير بها عن تعاليمهم النبوية. وجهل الأنبياء بالأمور النظرية لا يعني جهلهم بالإحسان وبقواعد السلوك في الحياة، أي أنه لا يمكن إسقاط الخطأ في تصور الأمور النظرية على الأمور العملية، لأن الأنبياء أبناء بيئتهم الثقافية، ولهذا يجوز لنا تصديقهم فيما يتعلق بغاية الوحي وجوهره وهو العدل والإحسان.

ولما كانت النبوة لا تعتمد على يقين الفعل، وهي الافكار الواضحة والمتميزة أو الاستدلالات الرياضية، فإن الأنبياء قد حصلوا على يقينهم من الوحي نفسه، معتمدين على ما أوتوا به من آيات، ومن هذه الناحية تكون النبوة أقل من المعرفة الطبيعية التي لا تعتمد في يقينها على الآيات، بل تستمد يقينها من طبيعتها، ولم يكن يقين النبوة رياضيا بل يقينا خلقيا، وبالرغم مما قد يثير ذلك من شك في الوحي وفي النبوة، فإن للنبوة درجة عظيمة من اليقين، ويقوم هذا اليقين على ثلاثة أسس: 

  • تخيل الأنبياء الأشياء الموحى بها بطريقة حية كإدراكنا للأشياء الطبيعية؛
  • الآيات التي يعتمد عليها الأنبياء؛
  • ميل الانبياء إلى العدل والخير. 

إن العلاقة بين المعرفة النبوية والمعرفية الطبيعية، هي أن الأولى معرفة يقينية أوحاها الله للناس، والمعرفة الطبيعية معرفة يقينية وصل إليها العقل بمفرده، كلاهما معرفة يقينية، ولا فرق بينهما إلا في شيئين، المعرفة النبوية تستعمل الصور الخيالية للتأثير على النفوس، في حين أن المعرفة الطبيعية غايتها الحق، والمعرفة النبوية غايتها الخير.

<><>

الميثاق المؤقت والميثاق الأبدي

يرى اسبينوزا أن الله ارسل الوحي لبني إسرائيل، وذلك ليس اصطفاء لهم عن باقي الأمم، بل لسبب يتعلق بالنظام الاجتماعي، حيث يعطي المجتمع الإسرائيلي الأمن والاستقرار، ويكون أقل اعتمادا على الحظوظ الخارجية، ويتجاوز مرحلة المجتمع البدائي الذي يعتمد كليه على هذه الحظوظ، ولذلك فإن النظام الاجتماعي هو السبب الذي تم عليه اختيار الأمة العبرانية، وبهذا المعنى تم تفضيلها على باقي الأمم، نظرا لنظامها الاجتماعي ولغنمها المادي، وفيما عاد ذلك، فإن العبرانيون يتساوون مع غيرهم، وعقابهم جاء نتيجة نقضهم الميثاق، أي نقضهم للنظام الاجتماعي وبالتالي القضاء على الدولة، ومن تم أصابتهم المحن، أي تم الإخلال بشرط التعاقد من طرف بني إسرائيل، ومنه بطل العقد، وذلك لكونهم وضعوا ميثاق الفضيلة الحقة، في كلمات يتمتمون بها، وقرابين يقدمونها، وشعائر يقيمونها، أي أنهم لم يستطيعوا إدراك الأشياء الروحية إلا بمظاهر حسية، اهمها بناء الدولة، وبالتالي كان الميثاق ميثاقا مؤقتا، وليس أبديا. 

القانون الإلهي والقانون الإنساني

إن الوحي لا يبقى في المستوى الروحي فقط، بل هو أيضا نظاما للكون، أي أن الدين عقيدة وشريعة، والشريعة هي القانون الإلهي الذي تمت صياغته في قانون إنساني، بمعنى آخر بتم تجسيد القانون الإلهي وفق مستوى فهم العامة ويتبلور إنسانيا.

ويعني القانون بصفة عامة اندراج الأفراد في مجموعة معينة تحت قاعدة واحدة، ويعتمد القانون إما على الضرورة الطبيعية عندما يصدر عن الطبيعة نفسها، أو يعتمد على القرار الإنساني عندما يصدر عن الإنسان، ويسمى في هذه الحالة قاعدة، وذلك من أجل جعل حياة الناس أكثر ملاءمة وأمنا، إلا أن كل شيء بالنسبة لاسبينوزا محدد طبقا لقوانين الطبيعة الشاملة، لأن الإنسان جزء من الطبيعة وقدرتها. أما القانون بمعناه الخاص فهو الأمر الذي ينفذه الإنسان، والذي يحد من قدرته أو الذي يأمره بما يستطيع، ويكون هنا قاعدة للحياة يفرضها الإنسان على نفسه أو على الآخرين لغاية معينة. وقد قام المشرعون بوضع القوانين حتى تسير الحياة وفقا للعقل، وصحب القانون الجزاء والعقاب، خاصة للعامة، وذلك لأن الخاصة يعلمون الغاية من القوانين حتى قبل وضعها، أي أن الخاصة تحاول الإحاطة بالقوانين التي تكون من قبل بمثابة مشاريع، وترى هل يضر بها وبمصالحها أم أنه يقويها، لهذا تخضع العامة للقوانين التي يسنها الخاصة لها خوفا من العقاب، أما الخاصة فإنهم يتبعون قراراتهم الخاصة، لا ما يضعه الآخرون لهم، وبهذا يكون العدل في اتباع القرار الخاص، وبالتالي فإن القوانين هي تجسيد للطبقة المهيمنة على القرار السياسي، ومن هنا جاءت التفرقة بين القانون الإلهي والقانون الإنساني، فالقانون الإلهي يبغي الخير الأقصى أي معرفة الله وحبه، في حين أن القانون الإنساني يبغي الأمن وسلامة الدولة.

وتعتمد معرفتنا التي تكون يقينية على معرفتنا بالله وحدها، لأنه لا يمكن أن نتصور أي شيء أو ندركه بدون الله، ولهذا تظل معرفتنا موضوعا للشك ما دامت فكرتنا عن الله غير واضحة ومتميزة، بل إن خيرنا الأقصى وكمالنا يعتمدان على معرفتنا بالله، بحيث أن كل الموجودات الطبيعية تتضمن فكرة الله وتعبر عنه بقدر درجتها في الجوهر والكمال، لأنه كلما ازدادت معرفتنا بالأشياء الطبيعية كملت معرفتنا بالله، وأن معرفتنا بالخير الأقصى لا تعتمد على معرفة الله وحدها، بل هي على وجه التحديد هذه هي المعرفة نفسها، وبالتالي فإن الأمر الإلهي إذن هو فكرة الله في أنفسنا، والقانون الإلهي هو حضور الله في أنفسنا، وهذا هو موضوع علم الأخلاق الشامل. 

ومن يحب الله باعتباره الغاية الأخيرة يكون هو المطيع حقا للقانون الإلهي، لا عن خوف ورجاء بل عن معرفة الله، لأنه يعلم أن معرفة الله وحبه هما الخير الأقصى، وهذا الأمر يدركه الإنسان بذهنه. أما القانون الإنساني فإنه يبتغي غاية أخرى وهي المحافظة على سلامة الإنسان، وأمن الدولة. غير أنه إذا كان الوحي هو الذي أنزل الشريعة، فمعنى ذلك إرجاع الأشياء إلى الله، وبهذا المعنى تكون الشريعة الموسوية قانونا إلهيا بالرغم من أنها لبست شريعة شاملة، وتكيفت حسب طبيعة شعب معين للمحافظة على سلامته، ما دام النور النبوي هو الذي شرعها.

وينتج عن هذا أربع حقائق. 

1. قانون شامل، يصدق عن كل الناس، ويستنبط من الطبيعة الإنسانية، ويدرك بالنور الفطري. 

إن معرفتنا لطبيعة الله أن إرادته وذهنه شيء واحد، نعرف أن أوامر الله بالتحريم والتحليل حقائق أبدية، تتضمن ضرورة أبدية، لأن معرفته تتطابق وقدرته، وبالتالي فإن إدراكنا هو إدراك لقوانين وقواعد، تقرر وجوب ثواب وعقاب نتيجة فعل ما، وليس لطبيعة الفعل نفسه، بمعنى آخر، أن المعيار الذي يجب الانطلاق منه هو إدراك نتيجة الفعل قبل القيام بالفعل ذاته، أي إدراك عواقب الفعل، ويعطينا اسبينوزا مثل أكل آدم للشجرة المحرمة، فالله أوحى له الشر الذي سيكون النتيجة الضرورية لفعله، ولكن لم يوح له ضرورة نتيجة هذا الشر، أي آدم لم يدرك الوحي كحقيقة أبدية، بل أدركه كقانون وقاعدة، ونظرا لنقص معرفة آدم، أصبح الوحي قانونا، وليس حقيقة، وأصبح الله مشرعا وأميرا، لذلك تصور آدم الله كمشرع، أو على أقصى تقدير كموجود عادل ورحيم، يتصف بكل الصفات الإنسانية، التي يجب إبعادها كلية عن الطبيعة الإلهية، أي تنزيه الله عن الصفات الإنسانية، على خلاف المسيح الذي أدرك الأشياء كحقيقة أبدية، وذلك لأن المسيح لم يرسل إلى اليهود وحدهم، بل إلى البشر جميعا، كما لم يتكيف الوحي حسب معتقدات شعب معين، بل تضمن تعاليم شاملة للإنسانية كلها، أي حقائق أبدية، ولهذا فالفيلسوف شأنه شأن المسيح، بحيث يستطيع إدراك حقائق الوحي بالنور الفطري، وذلك لأن العقل يعتمد على معرفة الله، وهذا العالم من شأنه الحث على الأخلاق الصحيحة والسياسة السليمة، وبذلك يكون النعيم في تنمية العقل الطبيعي، لأن النور الفطري قادر على إدراك القانون الإلهي.

2. القانون الإلهي لا يقتضي التصديق بالروايات التاريخية مهما كان مضمونها، لأننا نعرفه من الطبيعة الإنسانية، في حين أن الرويات مقيدة بالظروف التاريخية التي نشأت فيها.

يتبع الفيلسوف طريق العقل، ولا يحتاج إلى الرواية، لأن يدرك حقائق الوحي بالنور الفطري، أما العامة تتبع طريق التجربة لأن التصديق بالروايات ضروري لها نظرا لمستوى فهمها المحدود، وبالرغم من التصديق بالروايات فإنها لا صلة لها بالقانون الإلهي، ولا تؤدي إلى السعادة الأبدية، فقد نجهل الرويات كلية، ومع ذلك يظل سلوكنا فاضلا على السعادة الأبدبة، وبالتالي فحياة الفضيلة مرتبطة بإدراك النور الفطري حتى يحصل الإنسان على السعادة الأبدية، وليس بالضرورة التمسك بالروايات التاريخية.

3. القانون الإلهي الطبيعي لا يتطلب إقامة الشعائر والطقوس، أي مجرد حركات وأعمال للجوارح لا تكون خيرة إلا بالنسبة لنظام معين، لأن القانون الإلهي لا يتطلب أفعالا يتجاوز تبريرها حدود العقل الإنساني، فالخير الحقيقي يدرك النور الفطري، أما الخير التابع لنظام أو قانون فهو وهم. فليس غرض الشعائر الحصول على السعادة بل النعيم الدنيوي للدولة كالثروة والنصر، أو للجماعة كالصحة واللذات الدنيوية، بل إن التعاليم الخلقية لم تعط في الأسفار الخمسة للعهد القديم كقانون شامل، بل كوصايا تكيفت مع عقلية العبرانيين وحدهم، ولمصلحة دولتهم. ولهذا فمهمة الشعائر هي مساعدة الجماعة على التماسك والترابط الاجتماعي من الداخل، إذ تقوم الجماعة على تقسيم العمل، ويحتاج تقسيم العمل إلى تنظيم قانوني، دون أن يخضع البعض للبعض الأخر، لأنه ليس هناك أقسى من سلب الناس حرياتهم بعد حصولهم عليها. وتكون هذه القوانين في دولة ترى فيها الجماعة تحقيقا لرغبتها لا خوفا منها، ثم يطيع الجميع هذه القوانين التي ارتضاها الجميع بحرية تامة، وبذلك لا تفقد الجماعة حريتها، ويقوم كل فرد بعمله عن رضا وبحماس بالغ.

4. القانون الإلهي يعطي أكبر جزاء هو معرفة هذا القانون نفسه، أي معرفة الله وحبه، بروح صافية ثابتة، ومن رجال أحرار، أما العقاب فهو بمنع الخيرات، ووقوع في عبودية الجسد لنفس هزيلة مائعة، أي الوقوع في الوثنية كما قام بني إسرائيل.

<><>

المعجزة:

اعتمد اسبينوزا في موضوع النبوة على النور الفطري، باعتبارها موضوعا فلسفيا محضا يمكن دراسته بالاعتماد على العقل، وقد يمكن دراسته أيضا بمنهج النص مثل موضوع النبوة، لأن الكتاب يؤيد بوجه عام خضوع كل شيء لنظام ثابت للطبيعة، ومن يريد استعمال منهج النص فإنه سينتهي حتما إلى ما يدركه النور الفطري من أن الإيمان بالمعجزة ليس ضروريا للخلاص. 

إن العامة نظرا لنقص معرفتها النظرية، تسمي الأشياء التي تجهل عللها عملا إلهيا، وتظن أن قدرة الله لا تظهر إلا عندما تخرق قوانين الطبيعة، خاصة إذا كان في هذا الخرق مكسب مادي له، وترى أن تفسير الظواهر بعللها الطبيعية المباشرة إنكارا لوجود الله، لذلك فالله والطبيعة عند العامة طرفان متناقضان، حيث إذا عمل الله تتوقف الطبيعة، وإذا عملت الطبيعة يتوقف الله، هناك إذن قوتان متعارضتان، قوة الله وقوة الطبيعة التي تخضع لقوة الله كما تتصور العامة. فقوة الله مثل قوة الملك الحاكم وقوة الطبيعة كقوة عارضة لاحقة أو كقوة الرعية بالنسبة للديكتاتور، وهنا نرى أن المنطلق النظري الذي تنطلق منه العامة، يعبر أولا عن عطب في تفسير قدرة الله والطبيعة اللذان تراهما متناقضين، ولكن هذا التصور له أبعاد سياسية واجتماعية تقوم على الديكتاتورية والتبعية، وهذا هو التصور الذي تبنوه اليهود الأوائل.

لكن اسبينوزا يرى أن قدرة الطبيعة هي قدرة الله، لأن عقله وإرادته شيء واحد، ومنه فقدرة الله مماثلة لماهيته، ومنه فقوانين الطبيعة لا نهائية حتى تستوعب العقل الإلهي كله، وإلا فلنتصور الله خالقا للطبيعة بقوانين عاجزة، يأتي في كل مرة أن يقدم لها العون، وهذا مناف للعقل، وعلى هذا النحو تكون المعجزة عملا من أعمال الطبيعة نجهل عللها، ولا نستطيع إداركها بالنور الفطري، وبالتالي يمكن تفسير المعجزات التي يرويها الكتاب لو عرفنا عللها الطبيعية.

والإنسان الساذج هو الذي عندما يجهل شيئا ينسبه إلى الله، فضلا عن أن المعجزة واقعة محدودة، لا تدل إلا على قدرة محدودة، ولا تثبت وجود الله وقدرته المطلقة، في حين أن قوانين الطبيعة تشمل عدد لا نهائي من الموضوعات، وهي قوانين ثابتة لا تتغير، وبالتالي فإنها تكون أعظم برهان على وجود الله، والمعجزة التي تخرق قوانين الطبيعة لا تؤدي إلى معرفة الله فقط، بل تجعلنا نشك في وجوده، وبذلك يؤدي الإيمان بالمعجزات إلى الكفر والإلحاد، لأننا لا نستطيع أن نعرف الله بالمعجزة، لكونها ليست واضحة ومتميزة، وتتناقض وطبيعة الله ومنه تتناقض مع قوانين الطبيعة، لهذا فإن الفلاسفة يعرفون الله معرفة واضحة ومتميزة، وبمعرفتهم لقوانين الطبيعة، لا عن طريق المعجزات، ويحصلون على الفضيلة بالامتثال لأوامر الطبيعة لا بمناهضتها. 

وعلى هذا الأساس يشرح اسبينوزا أهم المفاهيم التي توحي بتدخل خارجي في الطبيعة في اللاهوت التقليدي شمل: حكم الله، عون الله الخارجي، عون الله الداخلي، اختيار الله، الحظ والرزق. 

  • حكم الله هو نظام الطبيعة الثابت الذي لا يتغير، أو تسلسل الموجودات الطبيعية، وذلك لأن قوانين الطبيعة الشاملة هي مشيئة الله الأبدية التي تتضمن حقائق وضرورة أبديتين، لهذا فإن صفات الله هي قوانين الطبيعة، بل إن الله هو الطبيعة، الله هو الطبيعة الطابعة، والطبيعة هي الطبيعة المطبوعة.
  • عون الله الخارجي هو ما تقدمه الطبيعة للإنسان دون جهد منه، ويستعين في حكمه وحفظ وجوده، وذلك لأن قوة الله هي قوة الطبيعة التي يتحدد بها كل شيء.
  • عون الله الداخلي، هو ما يصدر عن الطبيعة الإنسانية بقدراتها الخاصة، أي الجهد الذي يبدله الإنسان للمحافظة على وجوده. 
  • ختيار الله، هو اختيار يتم طبقا لنظام الطبيعة، أي بحكم الله ومشيئته الأبدية، ولا يستطيع أحد أن يختار طريقته في الحياة، أو أن يختار أي شيء إلا بدعوة من الله.
  • الحظ والرزق، هو حكم الله من حيث سيطرته على الأمور الإنسانية بعلل خارجية لا يتوقعها الإنسان، ولا مجال فيه للصدفة. 

هناك نصوص كثيرة في الكتاب تدل على أن مشيئة الله أو إرادته ليست شيئا آخر سوى نظام الطبيعة، ولكن الكتاب لم يعبر صراحة عن هذه الحقيقة لأن مهمته ليست التعريف بالأشياء بعللها الطبيعية، أو إعطاء حقائق نظرية، بل إثارة الخيال والتأثير في النفوس، في أسلوب شعري يثير الإعجاب ويطبع التقوى في النفوس، لأن كثيرا مما تذكره الروايات على أنه حدث لم يحدث بالفعل، بل مجرد صور شعرية، أو قد حدث، ولكن طبقا لقوانين الطبيعة. أما إذا كانت هناك واقعة مناقضة لقوانين الطبيعة صراحة فيجب اعتبارها زيادة في الكتاب، أضافاها المحرفون، لأن كل ما يناقض الطبيعة يناقض العقل، وكل ما يناقض العقل يجب رفضه، ( مثلا الإسراء والمعراج النبوي). 

وفي هذا الصدد يرى اسبينوزا أنه يجب التأكد من سلامة الحواس التي تطبع الخيال، ولتفسير المعجزة تفسيرا صحيحا علينا أيضا دراسة أساليب البيان، وطرق البلاغة، فكثيرا ما كانت تروى المعجزات على نحو بلاغي، للتعبير عن أشياء أخرى، ولا يتم ذلك رغبة في إدخال بعض المحسنات البديعية فحسب، بل إخلاصا من الرواة في رواياتهم.

<><>

النبي والحواري

حاول اسبينوزا في دراسته لموضوع النبي والحواري أن يركز دراسته على الفرق بين النبي والحواري، أي الفرق الذي غفله المسيحيون أنفسهم في الخلط بين الوحي والإلهام، أو كما يسمى في البيئة الإسلامية بالنبي والصحابي، أو بلغة النقد بين الكتاب والتراث. 

من ناحية الأسلوب يؤكد اسبينوزا أن النبي يتحدث بناء على تفويض من الله، أي أن النبوة من الله، وهي توفيق من الله واختيار إلهي للنبي، والنبوة يقينية لا تخطئ، اما الحواري يؤكد أنه يتحدث باسمه، ويعبر عن تفكيره وأرائه الشخصية والخاصة، ورسالته فإنها من عنده هو، حيث يتطوع من تلقاء ذاته لكون لديه القدرة على النشر الدعوة، ورسالته رسالة ظنية يمكن الشك فيها.

ومن حيث طريقة التعبير، نجد النبي لا يستدل، بل يتحدث معتمدا على السلطة الإلهية، ويبلغ الحقائق التي عرفها من الوحي، كان موسى موسى لا يعتمد على العقل، بل يدعو للفضيلة كما يدعو الواعظ ولا يتحدث باسمه بل باسم الله، وقد يقترب النبي من الاستدلال، لو كانت معرفته بحقائق الوحي أقرب إلى المعرفة الفطرية، لأن معرفة الأنبياء عادة تأتي من فوق الطبيعة. أما الحواري فأنه يستدل ويناقش، يجادل ويحاج يفكر ويعتمد على العقل، وفي الحقيقة لا يعتمد الحواري على النور الفطري، بل يلجأ إلى الإحساسات والعواطف والانفعالات، وقد يصل إلى بعض حقائق الوحي بالنور الفطري، مثل دعوته إلى الأخلاق

وبالرغم من بعض نقاط التلاقي بين بين النبي والحواري في الـتأثير على النفوس، إلا أنه لكل واحد منهجيته وشرعيته، فالنبي يعتمد الوحي ويستمد منه مشروعيته، والحواري يعتمد على الكتاب، ويستمد منه مشروعيته. 

الوحي المكتوب والوحي المطبوع

يميز اسبينوزا بين الوحي المكتوب والوحي المطبوع ويفرق بينهما، فالأول هو موضوع النقد، اي دراسة الوحي من حيث الرواية ونقلها وصحتها ولغتها، أي الوحي من حيث هو صورة وشكل، والثاني موضوع الفلسفة والتصوف، وهو الوحي من حيث معنى مطبوع في القلب ومسطور في النفس، فهذا الوحي من حيث هو مضمون ومعنى لا يكون إلا في صورة أي مكتوب ومدون، وكل نص خاضع للتحريف، ولا يمكن إثبات الصحة التاريخية للوحي المطبوع، إلا عن طريق ذاتي محض. 

الوحي المكتوب قابل للتغير والتبديل، وخاضع للتحريف والتزييف، وهذا الوحي قابل للنقد، لأنه صورة حسية للوحي المطبوع، لذلك لا يمس النقد التاريخي جوهر الوحي أي معناه، بل الصورة اللفظية والشكل التاريخي. لذلك لا يمكن الخلط بين الوحيين لأن الذي يعتبر الوحي المكتوب هو الوحي المطبوع فإنه يريد تفادي نتائج النقد التاريخي، أي أنه يريد الإبقاء على الصورة الحسية للوحي، والإبقاء على التزييف في النص والإيمان بعقائد على هواه. 

وهذه التفرقة لا تعني إنكار قدسية الكتاب، مادام لازال غرضه التقوى والتدين، ولازال يحث الناس على ممارسة الفضيلة وحياة التقوى، وبالتالي فالقداسة هي أن يكون الإنسان نقيا والألوهية أن يكون الإنسان إله، أي ان استعمال الكتاب المقدس من أجل الارتباط بروحه القائمة على الفضيلة والتقوى. 

ويرى اسبينوزا أن أسفار العهدين (القديم والجديد) لم تكتب بتفويض من الله مرة واحدة، بل كتبه مؤلفون كثر صدفة عبر تاريخ كتابتهما، وطبقا لظروف العصر، وأراء وأغراض الكتاب، وبالتالي خضع لكثير من المعالجات والإعادة، بحيث هناك أربع أناجيل، تختلف مع بعضها البعض، لكن هذا لم ينقص من سعادة الناس، لأن الذي يمكن إدراكه هو أن مضمون الكتاب يدعو إلى حياة الفضيلة، ومنه لم يقع التبديل إلا في الوحي المكتوب لا في الوحي المطبوع، ولم يقع التحريف إلا في الألفاظ لا في المعاني، وبهذا المعنى يمكن فهم أن الكتاب قد وصل إلينا بلا تحريف أو تبديل، وهو الذي يمكن تلخيصه في " أحب جارك كما تحب نفسك " فهذا هو أساس الدين كله الذي لا يقع في الخطأ. 

الفرق الثاني بين الوحي المكتوب والوحي المطبوع، هو أن الأول يمكن إداركه بالوحي، أي بالرواية والنبوة، في حين أن الثاني يمكن إدراكه بالنور الفطري، الأول يمكن إدراكه عن طريق الحواس، والثاني عن طريق العقل. 

الفرق الثالث هو ان الوحي المكتوب يتضمن الشريعة، أي تنظيم أعمال الجوارح، في حين أن الوحي المطبوع لا يتضمن إلا التقوى والفضيلة أي تنظيم أعمال النفس. 

والفرق الرابع، هو ان الوحي المكتوب أتى لأمة معينة، وهي الأمة العبرانية، وفي زمكان معينين، في حين أن الوحي المطبوع أتى للناس جميعا في كل زمان ومكان.

<><>

النظر والعمل:

يعمل اسبينوزا على نقل الدين من مجال النظر إلى مجال العمل، ويرى ان أساسه النظري يسير للغاية، لا شأن له بالتعقيدات العقائدية التي لا نهاية لها، فتعاليم الكتاب عند اسبينوزا يسيرة للغاية تدعو إلى الطاعة، وتعاليمه الإلهية لها هدف عملي في الحياة، ولذلك لم يكن للأنبياء ذكاء خارق للعادة، بل كان لهم خيال خصب، ولهذا السبب أيضا لم يضع الوحي أسرار فلسفية، بل أعطى أفكارا سهلة للغاية، طبقا للأراء السابقة لكل مؤلف، كما أعطى تعاليم يسهل إدراكها على كل فرد أيا كان، ولم يستعمل منهج الاستنباط، بل أعطى بعض الحقائق للاعتقاد، وأيدها بالتجربة وهي المعجزة، واستعمل اسلوب التأثير في القلوب، وتحريك النفوس. والحقيقة أن الكتاب لا يحتوي على أية عقيدة فلسفية خالصة، بل على بعض الأفكار السهلة، وذلك لأن غرض الكتاب ليس إعطاءنا معرفة علمية بل دعوتنا إلى الطاعة ورفض العصيان، وطاعة الله في حب الجار، ولا يتطلب الكتاب أية معرفة أخرى إلا ما يحث فيها على الطاعة.

والفرق بين المعرفة العقلية والمعرفة العملية، هو أن الأولى تمدنا بمعرفة طبيعة الله في ذاته، ولا يمكن أخذ هذه الطبيعة كقاعدة للسلوك في الحياة، على خلاف المعرفة العملية التي تمدنا بقواعد السلوك في الحياة، لذلك لم تكن المعرفة العقلية شرطا من شروط الإيمان، أي أنه ليس من الضروري أن يكون الإيمان مبني على العقل، بل يستطيع الناس أن يخطئوا في هذه المعرفة دون أن ينقص ذلك من إيمانهم شيئا، ولهذا فالكتاب لا يهدف إلى إعطاء العلم بل يدعو للطاعة. ومنه فالإيمان مرهون بالعمل لا بالنظر، لأن العمل الصادق مهما كان قائما على نظريات غير صحيحة في طبيعة الله هو أفضل من العمل الكاذب مهما كان قائما نظريات صحيحة فيه، وبالتالي فناك فرق بين الإيمان والعقل، خصوصا وأن الإيمان يؤدي إلى الطاعة، والعقل إلى الحقيقة النظرية، وينتج عن هذا الأمر نتيجتان.

  • يؤدي الإيمان إلى الخلاص، لأنه يحث على الطاعة، لا لأنه الإيمان في ذاته، فالإيمان بدون عمل ميت.
  • يكون المطيع هو صاحب الإيمان الصادق، وهو الإيمان الذي يعطيه الخلاص.

والإيمان يتطلب عملا صادقا أكثر مما يتطلب عقائد صحيحة ولا يهم مطلقا أن تكون العقائد باطلة لو كانت تؤدي إلى العدل والإحسان، ويمكن استنتاج بعض العقائد من مبدأ الإيمان الشامل وهو حب الجار، وهي ليست عقائد نظرية بقدر ما هي مبادئ تحث على الطاعة، مبادئ يحياها القلب في حبه للجار، وبذلك يكون الله في الإنسان، والإنسان في الله، ويشمل هذا المبدأ الشامل على الادنى من الإيمان، وهو يشمل سبع نقاط، تكون دينا عاما شاملا يصدر عن العقل، ويتفق مع الطبيعة ويحث على الخير، وهذه النقاط هي:

  1. يوجد إله خير ورحيم على الإطلاق، نموذج الحياة الحقة، يجب معرفته والإيمان به من أجل طاعته، والتصديق به كحكم عادل؛
  2. يوجد إله واحد جدير بالتبجيل والعظمة والمحبة؛
  3. حاضر في كل زمان ومكان ويرعى كل شيء، لا تخفى عليه خافية وهو الموجود الكامل؛
  4. يسيطر ويسير على كل شيء، لا عن قهر، بل بمشيئته المطلقة، ويطيعه كل فرد، وهو لا يطيع أحد؛
  5. عبادته في طاعته التي تتم بممارسة العدل والإحسان أي حب الجار؛
  6. يتم الخلاص للمطيعين وحدهم الذين يمارسون الطاعة في حياتهم، ويضيع من يتبعون الشهوات، ويسيرون وراء الأهواء؛
  7. يغفر للتائبين ذنوبهم، فكل بني آدم خطاءون، وخير الخطاؤون التوابون.

العقل واللاهوت:

يعتبر هذا الموضوع هو آخر موضوع ذو بعد ديني، وهي صلة العقل باللاهوت، وهي المشكلة التقليدية في فلسفة الأديان والتفكير الديني بوجه عام، يتحدث فيه اسبينوزا عن الدين والإيمان، ما دامت مهمتهما هي الحث على الطاعة من أجل حب الجار، وممارسة العدل والإحسان. ويرى أنه لا توجد أية صلة بين العقل والإيمان، أو بين الفلسفة والدين، أو كما يقول هو بين العقل والفلسفة من ناحية، وبين الإيمان واللاهوت من ناحية أخرى، بحيث يقوم كل علم، سواء الفلسفة أو اللاهوت، على مبادئ مختلفة جذريا عن المبادئ التي يقوم عليها العلم الآخر، فغاية الفلسفة الحقيقة، وغاية الإيمان الطاعة. وتقوم الفلسفة على مبادئ وافكار صحيحة، وتستمد من الطبيعة وحدها وتعرف بالنور الفطري، ويقوم الإيمان على التاريخ وفقه اللغة، ويستمد من الكتاب وحده، ويعرف بالوحي.

ويرى اسبينوزا أن هناك مشكلة زائفة يتطرق إليها الباحثون، لأنهم لا يفرقون بين الفلسفة واللاهوت، أي أنهم لم يستوعبوا مبادئ كل من اللاهوت الفلسفة، لذلك يطرحون إشكالية لا يمكن طرحها، وهي هل يجب توفيق الكتاب طبقا للعقل أم توفيق العقل طبقا للكتاب؟ ويعتبر كل من يريد أن يوفق بين الكتاب والعقل سواء الذين يجعلون العقل تابع للنقل أم الذين يجعلون النقل تابع للعقل، كلاهما خاطئين، وكلاهما يزيف العقل والكتاب، فالكتاب لا يعلم الأفكار الفلسفية، بل يدعو إلى الإيمان الصادق، وقد تكيف حسب العقلية الشعبية وأحكامها السابقة، فإذا جعلنا الفلسفة في خدمة اللاهوت، ووفقنا العقل مع الكتاب اضطررنا إلى قبول الأحكام السابقة للعصور الماضية على أنها حقائق إلهية، وإذا وفقنا الكتاب مع العقل نسبنا إلى الأنبياء أقوالهم تفسيرا خاطئا، وكلتا النظريتين خاطئتين، الأولى لإغفالها العقل، والثانية لاعتمادها على العقل. (مثل يهوذا البكار الذي يمثل الاتجاه النقلي، وموسى بن ميمون يمثل الاتجاه العقلي). وينتهي اسبينوزا إلى رفض المنهجين، فليس اللاهوت خادما للعقل، وليس العقل خادما للاهوت، بل لكل منهما ميدانه، فميدان العقل الحكمة، وميدان اللاهوت الإيمان الصادق والطاعة، ليس من شأن العقل أن يقرر حصول الناس على السعادة بالطاعة، وليس من شأن الإيمان الصادق أن يقلل من العقل، أو أن يعظم من شأنه.

ومع ذلك يستطيع العقل أن يفهم العقائد من حيث صحتها أو كذبها، فالعقل هو الذي يحمي الذات من الوقوع في الخطأ والأوهام، وبهذا المعنى يكون الوحي متفقا مع العقل في موضوعه، وهو الحقيقة، وفي غايته وهي السعادة، وعلى هذا النحو، يمكن للاهوت مخاطبة البشر جميعا باعتباره علما شاملا. وبالتالي تتفق الخلقية بطبيعتها مع العقل، لأننا نسمع صوت الله وكلامه فينا، والدعوة الخلقية ليست موضوع تحريف أو تزييف، فمن يظن أن هناك تعارضا أساسيا بين الفلسفة واللاهوت، وأنه يجب الإفساح لأحد الطرفين، فأنه يريد برهانا رياضيا للاهوت، وينتهي إلى إنكار يقين العقل نفسه، لأنه يزعزع الثقة بالعقل، ويضعف إيمانه بالكتاب.

<><>

حق المواطن وحق السلطة:

كانت الغاية من التفرقة بين الفلسفة واللاهوت إثبات حرية التفلسف، وتتحقق هذه الحرية من خلال ضمان حق المواطن، وهو حق الفرد الطبيعي الذي يشمل كل ما تستطيعه طبيعته، فالفرد كائن طبيعي يعيش في الطبيعة، لذلك يتحدد الحق الطبيعي بالرغبة والقدرة، أي بالحرية المطلقة في الطبيعة، خصوصا وان القانون الطبيعي غايته الوحيدة هي مصلحة الفرد والإبقاء عليه، وهذه المصلحة هي قانون البقاء، وتحتم هذه الضرورة عليه سائر أفعاله. ولذلك فدخول العقل هو دخول من أجل العيش في السلام بالمجتمع، ومنه وجب أن يتعاون الأفراد فيما بينهم، وبالتالي أصبح الحق الذي يتمتع به كل فرد حقا اجتماعيا تحدده إرادة الجميع لا إرادة الأفراد. وهكذا نشأ العقد الاجتماعي طبقا لقانون طبيعي وهو الرغبة، وغايته هي تحويل الفرد من العيش وفقا للطبيعة إلى العيش وفقا للعقل، فيصبح العقل موجها لسلوك الفرد، ولا يعامل الفرد إلا كما يجب أن يعامل نفسه، ويدافع عن حق الأخرين كما يدافع عن حقه.

إن تفويض الأفراد إلى حقوقهم الطبيعية كاملة إلى الجماعة، التي يكون لها السلطة المطلقة، والتي تجب لها الطاعة طوعا أو كراهية، باختيار حر أو خوفا من العقاب، وهذا هو النظام الديمقراطي. فالديمقراطية تنشأ من اجتماع الناس ويكون لهم حق مطلق على ما في قدرتهم، لذلك لا تطيع السلطة العليا الممثلة لهم أي قانون، بل يجب عليهم طاعتها لأنها تمثل الجميع بعد أن فوضوا لها حقهم ضمنا أو صراحة، ويجب على الجميع طاعتها إما بالضرورة أو طبقا للعقل. كما يجب على الجميع طاعة الدولة في قوانينها المتناقضة وذلك طبقا لمبدأ اختيار أهون الشرين. وتقوم السلطة أيضا بحماية الناس وبرعاية العقد الاجتماعي الذي به ينتقل الناس من العيش وفقا للطبيعة إلى العيش وفقا للعقل، خصوصا وأن العقد يحرر الأفراد من التبعية للغير، لأنهم يعيشون في نظام ديمقراطي، لذلك كان هذا النظام أفضل الانظمة لأن الفرد يعيش حرا في مجتمع منظم.

ويعتبر أن حيازة الدولة للدين، يوجب عليها أن تضع تشريعا للمحافظة عليه، كما تحتكر الدولة العنف والثروة، وذلك خشية أن يفسر كل فرد وصايا الدين على هواه ويأخذ ذلك ذريعة لعصيان قوانين الدولة، خاصة وأن الله يأمر بطاعة القوانين الوضعية.

نشأة دولة العبرانيين:

سيطبق اسبينوزا نظرية العقد الاجتماعي على تاريخ العبرانيين، بل إن نظريته حول العقد الاجتماعي مستمدة من تاريخ العبرانيين التي كانت بمثابة ميثاق بين العبرانيين والله، وعلى غرار فكرة الميثاق يفسر اسبينوزا القضاء على دولة العبرانيين وانهيار امبراطوريتهم.

 إن فكرة الميثاق الذي كان وعدا بين الله والعبرانيين، حيث كان على أساس مصلحة الدولة، واعتبر هذا الميثاق بمثابة عقد اجتماعي ينشأ بين أفراد الجماعة الواحدة من أجل اختيار سلطة تمثل الجميع، وقد قام العبرانييون بهذا العقد بمحض إرادتهم، وبذلك أصبح الله زعيمهم السياسي، وأخذت دولتهم إسم مملكة الله. وفي هذا الصدد اختلط التنظيم الديني بالتنظيم الوضعي، وكانت مبادئ الإيمان هي مجموعة من القوانين، وكان الدين واجبا وطنيا، وجميع العبرانيين سواء أمام الله والقانون، إذ لهم جميعا نفس الحق في مخاطبة الله وتفسير القوانين والمشاركة في وظائف الدولة. 

وفي العهد الثاني، فوض الجميع لموسى حقهم في مخاطبة الله وتفسير القوانين، وبذلك حكم موسى العبرانيين بدلا من الله حتى لقد اتهمه البعض باغتصاب السلطة. ولم يكن للشعب قبل موسى، الحق في اختيار خليفته، بل كان موسى، بمقتضى تفويض السلطة له تعيين الخليفة لتنظيم الدولة ومخاطبة الله ونسخ القوانين وإرسال المبعوثين وتعيين القضاة واختيار الخليفة. ومنه تحول النظام إلى ملكية طبقا للتعاليم الإلهية، مما زاد من سلطة الرئيس، وكان مصير الشعب معلقا به، لكن حينما سيترك موسى الحكم سيخلف وراءه نظاما ثيوقراطيا.

إن النظام الثيوقراطي الذي سيخلفه موسى بعد تركه للحكم، كان نتيجة تداخل السلطات السياسية والدينية لدى العبرانيين، وأول فعل قام به موسى للتنظيم السياسي قبل تركه للحكم، هو بنائه للمعبد الذي سيسمى بمسكن الله، وسيتم تكليف اللاويين أحد أسباط يعقوب برعاية المعبد، من خلال تفسير القوانين ومخاطبة الله، لكن بالرغم من السلطة الدينية التي يتمتع بها اللاويين، لم يسمح لهم بالتأثير سياسي على الدولة، أولا خشية من أن يستغل اللاويين هذه المهمة في ارتكاب الجرائم معتمدين على سلطتهم في تفسير القوانين لإخفاء جريمتهم، لذلك لم تتعدى سلطتهم حدود التفسير، ثانيا حرمهم موسى من ملكية الأرض، لأن قوة المال كانت ستمكنهم من القوة السياسية والدينية، ولهذا حد موسى اللاويين في المجال الديني، لكن ضمن لهم الأسباط رزق العيش خدمة للمعبد. 

وبالإضافة إلى هذا أسس موسى الجيش من الأسباط لغزو بلاد كنعان، وقسم الأراضي على كل سبط قسما قسما، وعين لكل سبط رئيسا لتوزيع أنصبه، يعينه كل من كعب الأحبار (رجل الدين) ويشوع (رئيس الجيش)، كما عين موسى يشوع رئيسا للجيش الذي له الحق في مخاطبة الله عندما تعرض له مسائل جديدة، لكن يشاركه في ذلك كعب الأحبار بحيث يتوسط له مع الله، لأنه هو الذي له حق مخاطبة الله، ثم يبلغها يشوع إلى الشعب ويفرضها عليها ويتخذ الإجراءات الكفيلة بتنفيذها، مما يعني أن يشوع باعتباره رئيسا للجيش، يستمد من الدين الشرعية الدينية، ويحول هذه الشرعية إلى سلطة، مما يعني أن يشوع له سلطة تتفيذية، من خلال تحول هذه السلطة من المجال الديني إلى المجال السياسي، ومن بين السلطات التي يتمتع بها يشوع، هي أنه يعين قواد الجيش، ويبعث الرسل، ويقوم بشن الحرب، ولم يكن هناك تفكير لمن يخلفه دون اختيار من الله كما تقتضي بذلك مصلحة الشعب، ومن هنا يتبين أن مصلحة الله لا تتناقض ومصلحة الشعب أو الوطن، أي المصلحة الدينية لا تختلف عن المصلحة السياسية للوطن، بحيث أن الخدمة العسكرية إلزامية للجميع من 20 إلى 60 سنة، والجنود يؤدون قسم الولاء لله لا إلى القائد، ولهذا كان الجيش هو جيش الله، لأن الله عبر موسى هو الزعيم السياسي للدولة العبرانية. 

كما يعين موسى موظفين لا رؤوساء دولة لأنه لم يعط الحق لمخاطبة الله، وبهذا يتبين أن هؤلاء الموظفين لهم أدوار تنظيمية وإدارية، لكونهم لا يتمتعون أولا بالشرعية التي تتجسد في مخاطبة الله، وبالتالي ليس لهم سلطة سياسية، ولهذا كان النظام العبراني هو نظام ثيوقراطي يعتمد على شيئين المعبد هو عامل الوحدة بين الأسباط، وقسم الطاعة الواجب على المواطنين الذين هم جيش الله، بحيث يكونون مواطنين في وقت السلم ومحاربين في وقت الحرب، ويكون رئيس الدولة قائد للجيش، وتقوم الدولة أيضا بمهمة السيطرة على انفعالات المواطنين، وذلك لقيامها على حب المواطنين لبلدهم والدفاع عن استقلاله، لأن الحلف مع الله جعل استقلال البلد شرفا لله، ويعتبرون الإقامة خارج وطنهم عار، والاستعمار كذلك، فتحرر المواطنين من نير الأجنبي، وحبهم المطلق للوطن، وكراهية الأجنبي ومعارضته كواجب مقدس، كانت عوامل لوحدة الدولة العبرانية، وبهذا المعنى كانت المصلحة هي الدافع الوحيد في سلوك العبرانيين وفي حرصهم على الدولة لأنهم لم يحصلوا على حق الملكية إلا في الدولة الإلهية. وأن الإيمان هو طاعة قوانين الدولة حتى في أحوال المعيشة من زراعة وصناعة وتجارة، لذلك كان المثل الأعلى للسلوك هو السلوك الإجباري لا السلوك الاختياري. 

إن نقض العبرانيين للشريعة كلفهم انهيار الدولة والوقوع تحت نير الأجنبي، وذلك بسبب أن هذا الشعب كان عاصيا بطبعه، يرجع ذلك إلى نقص في شريعتهم التي وضعت بدافع الانتقام لا بوازع خلقي، أي أنها وضعت عقابا لهم، يقول اسبينوزا، لو كان الله قد أراد لهم دولة مستقلة ومستقرة لأعطاهم شريعة أخرى قائمة على أسس أخرى.

إن الاضطراب الذي وقع بين الشعب والطبقة الدينية المتمثلة في اللاويين والأحبار الذين أذلوا باقي الشعب لفضلهم عليه، واستغلوا ظروف القحط، فتحول إخلاصهم الديني إلى نفاق، لاحظه الشعب فغضب على اللاويين حتى ظن أن موسى لم ينصبهم تنفيذا لأوامر الله بل طبقا لمزاجه الخاص، إذا قام فريق من الشعب بالدعوة إلى المساوة في الحقوق والواجبات ولكن موسى قام بمعجزة لإثبات حسن نيته وأهلكهم جميعا. مما دفع الشعب للعصيان بعد ان اعتقد أن ما فعله موسى لم يكن أمرا من الله بل من عنده، وزيادة على انتشار الطاعون عمت الفتنة، وعصى الشعب وسمح لنفسه بكل شيء حتى انتهى إلى الانهيار التام، بمعنى آخر أن العقد الاجتماعي انتهى وبالتالي العودة إلى الفوضى، ومن تمت فإن انهيار العقد الاجتماعي حسب اسبينوزا راجع إلى الوضع الطبقي لرجال الدين، الذين أرادوا أن يحول مناصبهم إلى مكاسب شخصية، إما من أجل الاستحواذ على السلطة، أو بالحصول على مغانم شخصية.

<><>

الدين والدولة:

إن النتيجة التي توصل إليها اسبينوزا، وهي أن النظام الثيوقراطي لا يصلح في ظروف الإنسانية الحاضرة، نظرا للتداخل بين الدين والدولة،أي بين السلطات الدينية والسلطات السياسية. ويمكن الملاحظة من خلال تاريخ العبرانيين مجموعة عبر العوامل التي أدت إلى انهيار الدولة وهي: 

  • ظهور الفرق الدينية بعد استيلاء الأحبار على السلطة، وبداية انهيار الدين، وسيادة الخرافة، وتملق الناس للأحبار وسيادة الفساد في الدين.
  • إضرار الأنبياء المتطرفين بالدين، وصراعهم مع الملوك
  • نشوء الحرب مع بروز الملكيات، والسلطوية. 

من هنا يمكن استخلاص النتائج الأتية: 

  • يتضرر الدين والدولة حينما يتولى رجال الدين مهام سياسية، لهذا يجب الفصل بين السلطتين، وجعل رجال الدين يتفرغون لمهامهم الدينية؛
  • ينشأ الضرر إذا اعتمد القانون الإلهي على العقائد النظرية، وإذا تم تشريع قوانين خاصة لهذه الآراء التي تقبل المناقشة والجدل (القذف في ثوابت الأمة في المغرب، ازدراء الدين في مصر)، وتحول النظام السياسي إلى نظام قهر وعنف، إذ يعتبر الآراء الشخصية جرائم لا تغتفر، وإذا كان نظاما تتسلط فيه العامة فإنها تحكم على المفكرين، وتكون الآراء والمناقشات وسيلة للاضطهاد والإرهاب؛
  • مراعاة لمصلحة الدين والدولة لا ينبغي إعطاء أصحاب السلطة حق التمييز بين الأفعال والحكم؛
  • لا يقبل الشعب بتنصيب الملك إذا لم يكون متعودا على الحكم الملكي، ولا يقبل الملك أن يتنازل عن سلطته المطلقة، فاستبدال ملك بملك آخر ينتج طغاة، وينتج أيضا شعب العصيان كما وقع لبني إسرائيل. 

ولهذا يعتبر اسبينوزا أن الفصل بين السلطة الدينية والسلطة السياسية، يؤطر في نظام يعطي أهمية لموضوع الشعائر والطقوس، وبضرورة اتفاقها مع سلامة الدولة وأمنها، بحيث أن الشعائر بمعناه المحض لا تكون مهددة لسلامة ولا تؤثر عليها. ومن أجل ذلك يحاول اسبنوزا إثبات أمور ثلاثة. 

الأمر الأول والثاني، أنه لا يجب البرهنة على أنه كيف لا يحصل العدل والإحسان على قوة القانون بتشريع الدولة للانتهاء إلى أن الدين لا يحصل على قوة القانون إلا بمشيئة أصحاب السلطة. وأن الله لا يحكم البشر إلا من خلال السلطات السياسية.أي لا يصير الدين إلزاميا قانونا إلا بالتشريع السياسي، فإذا قضي على التشريع السياسي لا يصبح الدين سلوكا إجباريا للمواطنين، بل يصبح تعاليم عقلية شاملة، والدين الشامل لم يكن موجودا في ذلك الوقت. 

الأمر الثالث هو اتفاق الشعائر مع سلامة الدولة وأمنها، فهذا يعني أيضا تحديد الدولة للشعائر وتفسيرها لها دون الشعائر الداخلية أي التقوى والخلاص، فحب الوطن حب مقدس، وهو من أنبل العواطف، ولكن وجود الدولة هو الحافظ للقيم. وبالتالي فمصلحة الجميع سابقة على مصلحة الفرد، وللسلطة الحق في تحديد المصلحة العامة وأمن الدولة، واتخاذ الإجراءات اللازمة لذلك، ولا فرق بين النور الفطري والوحي في معرفة ذلك إذا كانت هذه الشريعة هي القانون الأسمى، ولا يكون لأصحاب السلطة فقط الحق في تفسير القوانين، بل لا يطيع الإنسان الله إلا إذا كان سلوكه متفقا مع المصلحة العامة، ومطيعا لأوامر السلطات، لأنها هي التي تسهر على تنظيم الشؤون العامة للدولة، وبهذا تتفق مصلحة الدين مع الدولة. 

مواطن حر في دولة حرة:

يؤكد اسبينوزا أن كل فرد حر في أن يفكر وفي أن يعتقد ما يشاء، ولا يتنازل بمحض إرادته عن هذا الحق. ومهما كان للسلطة من حق على الشعب من تفسير للقوانين فإنها لا تستطيع أن تمنع حقه في إصدار حكمه أو في أن يشعر بما يريد. وأن الغرض من إقامة نظام سياسي ليس السيادة أو القهر أو إخضاع الشعب لنير فرد آخر، بل التحرر من الخوف بحيث يعيش كل فرد بسلام، أي المحافظة على الحق الطبيعي في الحياة والسلوك، بمعنى آخر أن غرض الدولة هو الحرية. 

وإن تفويض الحق للسلطة العليا، لا يتبعه بالضرورة التنازل عن حرية التفكير وإصدار الأحكام، بشرط الاعتماد على العقل لا الحيلة والخداع، وعلى هذا النحو يستطيع أن يعبر كل فرد عما يفكر فيه دون أن يمس سلامة الدولة وأمنها الداخلي. فأفضل الأنظمة السياسية هي التي تسمح للفرد بحرية التفكير، وقد اعترف له الإيمان بهذه الحرية، فقد تسبب هذه الحرية بعض المتاعب للسلطات، ولكن المتاعب أقل بكثير مما لو سلب المواطنون هذه الحرية. 

إن الحرية هي العامل الأساسي لتقدم العلوم والفنون، فلو فرضت الدولة أفكارها على المواطنين فإنها لا تستطيع أن تجعل أفكارهم مطابقة لأفكارها، وبالتالي سيسود الخداع والمحاباة ويعم السقوط، أما إذا أرادت الدولة أن تعيد للمواطنين حسن النية وأن تمارس السلطات حقها في أفضل الظروف الممكنة يجب عليها التسليم بالحرية في التفكير والحكم، فتقل المتاعب، وذلك أقرب للطبيعة الإنسانية، والديمقراطية هي اقرب النظم إليها. لذلك يجب على الدولة أن يقتصر عملها على توجيه أعمال المواطنين في شؤون الدين والدنيا دون أن تسلبهم حريتهم في التفكير والتعبير. 

ويلخص اسبينوزا ذلك كله في مبادئ ستة تكون الدستور الشامل وهي: 

  1. يستحيل سلب الناس حرية التفكير والتعبير؛
  2. لا يهدد الاعتراف بالحرية الفردية هيبة السلطة أو حقها؛
  3. لا يمثل التمتع بالحرية الفردية أي خطر على سلامة الدولة؛
  4. لا تهدد الحرية الإيمان بالأديان؛
  5. تعجز القوانين الصادرة عن تنظيم الأمور النظرية؛
  6. ضرورة الحرية الفردية للمحافظة على السلامة وعلى الإيمان وعلى حق السلطة العليا.

وجملة القول هي أن اسبينوزا ينتهي إلى أن حرية التفلسف لا تمثل خطرا على التقوى والسلام في الدولة، بل إن القضاء عليهما يؤدي إلى ضياع السلام والتقوى ذاتهما.


إرسال تعليق

شاركنا رأيك في الموضوع

أحدث أقدم