وأنا أتصفح هذه الصور. جدي ذلك الرجل/الجبل الشامخ، المعلم، المربي، القدوة، فلاح، خياط يتقن جميع الحرف التي يحتاجها أهل الواحة... تسارعت وتقاطرت في ذهني ذكريات و ذكريات عشتها معه. وأنا طفل صغير بجسمي النحيل كان يصحبني معه إلى البستان.
كان رحمه الله طويل القامة، قليل الكلام كثير الأذكار والتسبيح، سريع الغضب وقلبه صفحة بيضاء كالحليب كريما عطوفا... لا يعرف للتعب معنى. داخل البستان يربط حماره في مكان به العشب ويزيل عنه البردعة ليستريح.
يبدأ عمله بنشاط سقي الأشجار، النخيل والمزروعات. نقش احواضها، حش البرسيم للأغنام، قطف ما تيسر من الخضر و الفواكه حسب الفصول، تلقيح النخل في موسم التلقيح، قطع الجريد اليابس والزائد وجني عراجين التمر في فصل الخريف بمساعدة أهل القصر "تويزا". التويزا كانت في كل الأعمال الكبيرة حرث، حصاد، دراس...
عند تسلقه النخلة كنت اتابع تسلقه ببصري حتى يختفي بين جريدها. عملي الصغير كان يقتصر على جمع البلح او التمر المتساقط تحت النخل، جمع أكوام البرسيم و الحشائش لتعبأ في الكيس الكبير الذي كانت تنسجه نساء الواحة".
في البستان كان لي عالمي الخاص. كنت أقلد جدي في كل شيئ يقوم به. في أحد أركان البستان كنت كونت بستاني الصغير الوهمي!
في فصل التلقيح كان جدي يتسلق نخلة تلو الاخرى كالفراشة و حنجرته تصدح بالأذكار و الصلاة و السلام على رسول الله. هذه الأذكار كانت عامة في الواحة عند تلقيح النخل.
لم يكن يتوانى في تحذيري من السقوط في الساقية، تسلق النخل و الإبتعاد من بعض الأماكن خوفا من العقارب و الثعابين و الإبتعاد من الحمار خوفا من ركلي. يقطف اي فاكهة نضجت يمدها لي و حين أحس بالعطش يملأ كفيه بماء الساقية لأشرب منها و في أحيان اخرى كنت استلقي على بطني و أشرب من الساقية مباشرة مقلدا الحمار.!
بعد تعبي من العمل و اللعب كانت بردعة الحمار فراشا وثيرا أستلقي فوقها غالبا كنت أغط في نوم عميق حتى يوقظني لنغادر. يضع ما جاد به البستان ذلك اليوم على متن الحمار و يرفعني كأنه رفع دجاجة ليضعني فوق الحمار. كان رحمه الله لا يركب و الحمار محملا.
في أحد الأيام بعد ما وضعني فوق الحمار شعرت بألم شديد في كتفي "وخزني بشوكة نخلة حادة" صحت وكدت أجهش بالبكاء إلتفتت نحوه إبتسم وقال:
- هل تألمت؟
- قلت: نعم.
- قال: الحمار كذلك يشعر بنفس الألم الذي شعرت به الآن حين توخزه بالأشواك.
رحمك الله جدي كم كنت حكيما.
بقلم: محمد قاسو