يعيش الإنسان حياته ضمن هياكل وبنى اجتماعية مختلفة، كالأسرة والمدرسة والشارع.. وغيرها من الفضاءات التي يتفاعل من داخلها الفرد الإنساني ويوظف مختلف مهاراته ومعارفه من أجل المساهمة في صناعة الحياة والمشاركة في قيادتها. ولكن هذه التفاعلات البينية الناتجة عن علاقات الفرد بالآخر وبالمجتمع، يحدث أن ينتابها بعض الشوائب والصعوبات التي قد يعود تأثيرها سلباً على الفرد خاصة إذا كان هذا الأخير طفلاً أو شخصاً في وضعية صعبة، إذ إن استعداداته تكون لا محالة غير كاملة النضج.
إن تقييم نتائج وتأثيرات هذه الصعوبات والمخاطر التي تطال الفرد لا يتم بمنأى عن النظر في مدى استعداداته المحكومة بطبيعة وماهية الأنساق المكونة لكينونته، حيث كلما ضعف تماسك هذه الأنساق واختل بناؤها كلما زادت حدة التأثير الواقع على الفرد. فما هي محددات هذا التأثير؟ وما هي البنية العامة التي تحكم هذه الاستعدادات؟
لا يجادل اثنان بشأن الآثار السلبية التي تخلفها الصدمات والمخاطر التي يتعرض لها الفرد أو الآثار الإيجابية التي تخلقها المواقف والأحداث الموفقة التي تصادفه في حياته اليومية، إذ إنه لا مجال لنفي العائدات المترتبة عن الأفعال والظواهر التي يتعرض لها، بحيث إذا كان لكل فعل رد فعل فإن لكل منهما أثرٌ على المفعول به، هذا الأثر لا تحدده فقط طبيعة الفعل وحدته، ولكن يتحدد كذلك بمدى الاستعدادات المهيئة لكل المدخلات المحتملة المترتبة عن ذلك الفعل.
إن استعدادات الفرد لمواجهة الحياة تختلف كل حسب توازن واستقرار بنائه العام، هذا البناء العام هو الأنساق/الأبعاد المكونة لكينونته الإنسانية، وهي التي تعطي لإنسانية معناها الخاص الذي تتفرد به. وتتجلى هذه الأنساق فيما يلي:
البعد البيئي: على اعتبار أن البيئة هي الفضاء العام الذي يحتضن النشاط والسلوك الإنساني، وتكون علاقة الفرد ببيئته علاقة يتبادلان فيها التأثير والتأثر. إنها علاقات مفتوحة بانفتاح الطبيعة بما تحتويه من كائنات حية وجامدة وظروف وعوامل مناخية فاعلة. وفي هذا النسق يتعين التمييز بين بيئتين:
البيئة الطبيعية: ويعنى بها المظاهر التي لا دخل للإنسان في وجودها أو استخدامها، ولكنها تكون ذات أثر في سلوكه ونمط عيشه؛
البيئة المشيدة: يقصد بها البنية المادية التي شيدها الإنسان أي كل المؤسسات والنظم الاجتماعية التي أقامها، والتي نظمت بها المجتمعات حياتها، والتي غيرت البيئة الطبيعية لخدمة الحاجيات البشرية. وهي كذلك ذات أثر في سلوك الإنسان ونمط عيشه.
إن البيئة منذ القدم كانت عنصراً هاماً ومؤثراً بدرجة كبيرة على الإنسان وعلى كينونته الحيوية سواء على المستوى الاجتماعي أو الفكري أو الاقتصادي وحتى السياسي، فالبيئة الطبيعية مثلاً شكل تنوع تضاريسها الجغرافية ومناخها تأثيراً بارزاً على أنماط العيش عند الإنسان، إذ إن سكان المناطق الحارة كالصحراء في جنوب المغرب يختلفون عن سكان المناطق الباردة في الجبال وفي الأطلس على سبيل المثال.
إن البيئة الطبيعية والمشيدة كلاهما عناصر فاعلة في تحديد طبيعة الفرد، وإذا ما كانت البيئة متدهورة من جراء اختلال توازنها الطبيعي أو كانت لا تحتمل ضغط عدد السكان.. أو غيرها من مظاهر التدهور فإنه من المحتمل أن ينعكس ذلك على سلوكهم وخلقهم، وقد أشار إلى هذا المعنى ابن خلدون بالقول "للبقاع تأثير على الطباع فكلما كانت البقعة من الأرض ندية مزهرة أثرت على طبع ساكنيها".
البعد الاجتماعي: وهو أية وحدة اجتماعية ضمن نظام اجتماعي تؤدي وظيفة ضمن شبكة معقدة يسعى أطرافها بوعي أو لا وعي منهم إلى تحقيق التكافل والاستقرار في المجتمع. إن أهداف هذا النسق الواردة في التعريف يتم بلوغها من خلال الربط مع الوظائف التي تؤديها أنساق فرعية متصلة بالنسق الاجتماعي، وهي (النسق الاقتصادي؛ النسق السياسي؛ الروابط المجتمعية..).
إن مسعى التكامل في ظل البعد الاجتماعي هو تركيز العلاقات داخل النسق لتحقيق التضامن والتماسك، والاستقرار النسبي للعلاقات، ومن الضروري استمرار تجديد مكانيزمات التكامل، نظراً لما يعتري الاجتماع البشري من تغير دائم. هذا مع ضرورة الحرص على تتبع الأهداف الشخصية للأفراد في الحالات التي تكون أغراضها مدمرة ومخربة ﻷهداف الجماعة ومقاصدها الاجتماعية الإنسانية.
إن البعد الاجتماعي يمكن أن يكون من خلال وظائفه التي تسعى إلى ضمان الاستقرار مسانداً للفرد حيال تعرضه للخطر بنفس القدر الذي يمكن أن يزكي الأثر السلبي للخطر ويقوض آثاره على حياة الفرد، إن هذا البعد لا يمكن إغفاله عندما نسعى إلى تقوية استعدادات الفرد وتدعيم قدرته على مواجهة جميع المدخلات التي تحتمل أن تكون خطيرة.
البعد الثقافي: والذي يأتي للدلالة على قوانين أو تشريعات أرضية من صنع الإنسان، والتي وضعها الإنسان لضبط نفسه ولتصريف أموره في الحياة. وهي تعبر عن تصور الإنسان القديم لما ينبغي أن تكون عليه الحياة، والأنساق الثقافية قابلة للتطور شأنها شأن كل عناصر الحياة. إن هذا البعد يصفه روبرت بيرستد بالقول: "إنه ذلك الكل المركب الذي يتألف من كل ما نفكر فيه، أو نقوم به، أو نتملكه كأعضاء في المجتمع".
إن لهذا البعد أثر في بناء الشخصية الإنسان فهو يولد داخل مجتمع له ثقافة خاصة، تلك الثقافة هي الإطار الأساس والوسط الذي تنمو وتتشكل فيه شخصيته، هي التي تؤثر في أفكاره واتجاهاته وقيمه ومعلوماته ومهاراته وخبراته ودوافعه وطرق تعبيره عن انفعالاته ورغباته. إن تأثير الثقافة في الإنسان متعدد الجوانب، حيث يطال الجسم والمزاج والأخلاق والعقل. فالإنسان الذي يعيش في جماعة تسود في ثقافتها العقائد الدينية تنشأ عقليته وأفكاره متأثرة بذلك، والإنسان الذي يعيش في جماعة تسود في ثقافتها الخرافات الثقافية فمن المرجح بشدة أن تنشأ عقليته وأفكاره على نفس النحو.
البعد البيوعصبي: والذي يركز على الجانب الفسيولوجي في الإنسان، من خلال مثلاً الوقوف على مكانة الجهاز العصبي في حياة الفرد البيولوجية، على اعتبار أنه شبكة اتصالات داخلية في جسم الكائن الحي تساعده على التواؤم مع المتغيرات البيئية المحيطة. إن لهذا البعد أهمية من خلال التأثير الكبير والمباشر في تحسين الحياة البشرية و رفع المعاناة عن الناس.
البعد الزمني: إن هذا البعد على الرغم من أصله وخلفيته الفلسفية، يبقى أحد أبرز الأنساق، حيث إنه الإطار الذي يعيش فيه الإنسان ويحيا، ونشاط الإنسان وأفعاله تمارس ضمن هذا البعد. سواء أتعلق الأمر بالزمن النفسي والذي لا يقاس إلا ذهنياً؛ أو الزمان الكمي الذي نقيسه ونستعمله في حياتنا؛ أو الزمن الكيفي الذي نستشعره.
إن هذه الأبعاد التي جئنا على ذكرها مجتمعه تشكل حزمه مركبة ومعقدة لا تستقيم كينونة الإنسان وبنائه العام إلا إذا خلت جميعها من الاعطاب والشوائب التي من شأنها أن تعرقل توازن الفرد وتماسك شخصيته، الأمر الذي ينعكس على مختلف تصرفاته وردود فعله حيال ما يتعرض له من مواقف في حياته اليومية. وعلى هذا الأساس تكون هذه الأبعاد المغذيات الأساسية والمحدد الرئيسي لنوع الاستعدادات التي تكون لدى الفرد.
إننا نستطيع القول إن هذا الترابط القائم بين مختلف هذه الأنساق مجال لا يجب خلخلة توازنه وتكامله لما في ذلك من انعكاسات سلبية على حياة الفرد الشخصية والجماعية. وإننا ندعو هنا في الأخير إلى ضرورة تدعيم كل هذه الأبعاد بكل الوسائل العلمية والتقنية لكي تضطلع بدورها وتحافظ على سلامتها حفظا لكينونة الإنسان ضد كل الأخطار والأسقام والصعوبات.