مما لا شك فيه أن ظاهرة الاطفال في وضعية صعبة قد نالت صورا متفاوتة من الاهتمام والرعاية في ظل الحضارات القديمة، حيث لم يكن للأطفال قيمة إنسانية كاملة وأصيلة، بسبب صعوبات العيش وقسوة الحياة التي تتطلب الابقاء على الرجال فقط كونهم الأقدر على مجابهة ظروف الحياة الصعبة، ولم يبدأ الاهتمام بالأطفال كفئة اجتماعية مستقلة إلا منذ بداية القرن الثامن عشر.
فالاهتمام بالأطفال في وضعيات صعبة كما قلنا يعود إلى فترات طويلة في التاريخ، فمن يطلع على كتب التاريخ ويدرس أنماط المعيشة في المجتمعات البشرية المختلفة على مر العصور، يجد فروقاً واضحة في ما بينها، كما ويتضح له مدى التطور الحضاري الذي وصل إليه الإنسان ومدى إقترابه أو إبتعاده من الأخلاق الإنسانية التي يجب أن يتصف بها ليكون جديراً بإنسانيته، ويبتعد بها عن كل ما يهبط بها إلى وحل اللاإنسانية، وعلى مر العصور كان هناك اهتمام متزايد بحماية ورعاية الأطفال الذين يواجهون ظروفا صعبة، ففي القرون الوسطى والعصور الحديثة المبكرة، كان الاهتمام بهذه الفئة عادة ما يتم تقديمه عن طريق الكنائس والمؤسسات الدينية وكانت هذه المؤسسات تهتم برعاية الأيتام والأطفال الفقراء وتوفر الطعام والمأوى لهم، ومع تطور الثورة الصناعية واجه الأطفال ظروفا صعبة، حيث بدأوا العمل في المصانع والمناجم بسن مبكرة.
وفي القرن العشرين، ارتفع الوعي بحقوق الطفل وضرورة حمايته من التمييز والاستغلال، فتم تبني العديد من الاتفاقيات والمواثيق الدولية لحقوق الطفل، بدءا من أول لجنة شكلتها عصبة الأمم المتحدة سنة 1919 الى اعتماد الأمم المتحدة اتفاقية حقوق الطفل عام 1989. وعملت المنظمات غير الحكومية والجمعيات الخيرية في جميع أنحاء العالم على توفير الرعاية والدعم للأطفال الذين يعانون من ظروف صعبة مثل الفقر والحروب والنزاعات واللاجئين والكوارث الطبيعية والأطفال في وضعية إعاقة وأطفال الشوارع والأطفال المهملين.
اذا بدأنا الحديث أولا عن الأطفال في وضعية إعاقة في الديانة الإسلامية فقد جاءت بتقرير حقوق المعاق وحفظها وأقرت أحكاما لها، فكل مـن تسبب على إنسان بزوال عقله قررت الشريعة عليه الدية كاملة وتوليه المطالبة متى ما أثبت أهل الطب عدم سلامته مستقبلا، وجعل الإثم على من تسبب عليه بالإعاقة ولو كان أحد والديه، فلو تسببت الأم مثلا على جـنينها بإعاقة ذهنية لشربها الكحول أو تناولها الأدوية المضرة بالجنين بعلمها أثناء فترة الحمل فهي آثمة بذلك.
وفي العصر الحديث نجد أن الرعاية الاجتماعية برزت بشكل كبير وأثمرت نتائج هامة خاصة بعـد التزايـد الكبير لفئة الأشخاص في وضعية إعاقة بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية. كما تجدر الإشارة إلى عقد الثمانينيات، حيث عرفت تحولا ملحوظا ونقلة نوعية حـول دراسـة مشـكلات الأشخاص في وضعية إعاقة وتقديم سبل الرعاية اللازمة لهم وتأهيلهم، واعتبارهم من الفئات التي حرمت لمدة طويلـة من أنماط الرعاية الاجتماعية الحقيقية.
من جهة أخرى يمكن الحديث عن أطفال الشوارع اليوم باعتبارها احدى الوضعيات الصعبة فهي ظاهرة لا أحد ينكر أن لها عواقب مأساوية لا يمكن التكهن بمخاطرها. فهناك ملايين من أطفال الشوارع اليوم يعيشون منعزلين ومتشردين، يعانون من سوء التغدية، و يفتقدون العطف و التعليم و المساعدة و يعيشون على السرقة و التسول و العنف و الاندماج في العصابات.
كما أضحت ظاهرة أطفال الشوارع، في السنوات الأخيرة، من الظواهر التي تؤرق المجتمع المغربي، حيث بات الشارع الملاذ الاضطراري الوحيد لآلاف الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 5 و16 سنة. ولم تعد الظاهرة تقتصر على الذكور فقط، بل أصبحت تشتمل الإناث أيضا. وهذا المعطى أكدته البرلمانية فاطمة الكشوتي، التي نبهت إلى أن وجود فتيات أيضا في الشارع يعني أن هناك أطفالا سيولدون في الشارع مستقبلا.
وقالت النائبة ذاتها، في سؤال كتابي، إن تزايد عدد أطفال الشوارع في المدن المغربية يرجع إلى أسباب كثيرة، منها العنف والحرمان وغياب الإحساس بالوجود أو الشعور بالحماية والفقر والتفكك الاجتماعي. كما يعتبر طلاق الوالدين أحد أبرز أسباب استفحال هذه الظاهرة؛ إذ يعرض الأبناء للتشرد والضياع.
بالنسبة للمغرب فإن الظاهرة حديثة نسبيا على الأقل بشكلها الملفت للنظر، ولكن لا نتوفر على إحصاءات شاملة و دقيقة حولها، لأنها كانت من الظواهر المسكوت عنها، و لا يتم إلى عهد قريب الاعتراف بها كظاهرة و كذلك لصعوبة التمييز بين الأطفال الذين يعيشون في الشارع و الأطفال الذين يشتغلون و يعودون إلى منازلهم، و رغم قلة الإحصائيات الشاملة و الدقيقة يمكن تقديم بعض البيانات التي يجوز أخذها مأخذ الجد للفت انتباه الرأي العام إلى خطورة هذه الظاهرة.
وتؤكد إحصائيات وزارة التخطيط والتوقعات الاقتصادية أن عدد الأطفال المتخلى عنهم في المغرب حوالي 400 ألف طفل، و هذا رقم كبير، و هو فقط للمتخلى عنهم، أما بالنسبة لأطفال الشوارع فيقدرون حوالي 240 ألف طفل في مختلف المدن و الأقاليم المغربية.
أما في علاقتنا بموضوع الدراسة المتمثل في الأطفال في وضعية صعبة بشكل عام والذي اخترنا فيه الحديث بشكل خاص عن الأطفال بدون سند أسري بمعنى اَخر الأطفال المتخلى عنهم فهي الأخرى ظاهرة عرفتها المجتمعات منذ القدم، وقد تم عبر العصور العمل على وضع حلول لها وذلك بتوفير رعاية بديلة لهم. فقد أولى الدين الإسلامي للطفل المحروم من الرعاية الأبوية رعاية خاصة، ودعا إلى التكافل الاجتماعي و حث على العناية باليتيم فقد وردت عدة آيات قرآنية تحث على حماية الأطفال اليتامى ومنها قوله تعالى :" إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا" وقوله تعالى :"ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وان تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح" وقوله تعالى "و ابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم و لا تاكلوها إسرافا و بدارا أن يكبروا، و من كان غنيا فليستعفف و من كان فقيرا فليأكل بالمعروف" وجاء في اَية أخرى "و يطعمون الطعام على حبه مسكينا و يتيما و أسيرا" صدق الله العظيم.
بالانتقال الى التشريعات الوطنية فقد عمل المغرب بعد الاستقلال على ملائمة قوانينه مع هذا التوجه العالمي وقد تم إصدار عدة دوريات ومناشير تتطرق إلى الكفالة سواء من حيث شروطها والمسطرة التي يجب إتباعها للتكفل بالطفل المهمل، غير أنه ومنذ أن صادق المغرب على اتفاقية حقوق الطفل بتاريخ 14 يونيو 1993، التي ألزمت في مادتها 20 من الدول الأطراف بتوفير رعاية بديلة للطفل المحروم بصفة مؤقتة أو دائمة من بيئته العائلية، أو الذي لا يسمح له بالبقاء في تلك البيئة مع تقديمها لأمثلة عن الشكل الذي يجب أن تتخذه هذه الرعاية كالحضانة و الكفالة و التبني و الإقامة في مؤسسات مناسبة لرعاية الأطفال، ونظرا للصعوبات التي أفرزها الفراغ التشريعي بهذا الخصوص فقد عمل المشرع المغربي على سن أول قانون ينظم كفالة الأطفال المهملين الصادر بتاريخ 14 يونيو 1993، وهذا القانون أتى بحلول لهذه الفئة من الأطفال في كيفية رعايتهم والتكفل بهم بدءا من التصريح بالإهمال ومرورا بتحديد المسطرة المتبعة للكفالة والشروط الواجب توافرها في الكافل وكذا كيفية تسوية وضعيتهم تجاه الحالة المدنية.
فئة عريضة من أطفال المملكة يمكن تصنيفهم ضمن خانة "الأطفال في وضعية صعبة". حقيقة لا يختلف حولها اثنان، والمشاهد المؤلمة التي تصدمنا يوميا في الفضاء العام بالجهات الأربعة للمغرب، بحواضره وقراه، تضع مختلف المتدخلين أمام مسؤولياتهم من أجل وضع أسس بيئة حمائية للأطفال ضد جميع أشكال الإهمال، والاعتداء والاستغلال، والعنف.
بقلم: أميمة الشرقاوي، وناهلة سعودي، وحسن ناجي، وعبد المنعم أجرار