يعيش الإنسان بشكل دائم على وقع تغيرات عالمية ومجتمعية باستمرار، سواء أكانت طبيعية أو اصطناعية متكلف بخلقها من طرف الإنسان نفسه، والتي يحدثها تجمعه البشري. وفي ظل حاله عدم الثبات هذه، نتساءل ونبحث في مدى الاستقرار الاجتماعي والنفسي الذي يحظى به هذا الإنسان لا سيما لدى فئات ضعيفة من الأطفال، وذلك عندما يتعلق الأمر بالكوارث الطبيعية التي تشكل صدمة حقيقية وتجربه صعبة ومأساوية في حياة كثير منهم.
وإثر ما تخلفه بعض الكوارث الطبيعية، من قبيل الزلازل، فإن الحالة النفسية لكثير من الأطفال تكون على المحك وأمام اختبار حقيقي نظرا لفقر التجربة وفقر التعامل مع المواقف الصعبة لدى كثير منهم. ولعل ما يعيشه الآن أطفال مناطق كثيرة تألمت من وقع صدمه الهزة الزلزالية القوية التي ضربتها، أو حتى أولئك الذين تابعوا الأحداث من مناطق بعيدة عن البؤرة الزلزالية في مختلف ربوع المملكة، يدفعنا لطرح السؤال حول: كيف يتأثر الأطفال بالزلازل وما تخلفه من أضرار بشرية ومادية وحالة من الذعر والخوف؟ وهل هؤلاء الأطفال مهددون بفعل الصدمة من اضطراب الاكتئاب؟
هناك تلازم بين الحالة الاجتماعية والبيئة والحالة النفسية.. فشكل الوسط الاجتماعي والطبيعي يؤثران على الصحة النفسية؛ باعتبارها حاله ايجابيه توجد عند الفرد وتظهر في مستوى قيام وظائفه النفسيه بمهمتها بشكل حسن ومتناسق ومتكامل ضمن وحده الشخصيه، ليس على المستوى النفسي فقط بل حتى على المستوى الاجتماعي مع نفسه ومع الاخرين.
ان هذا البناء النفسي لدى الأطفال يكون مهددا بمجموعة من الاضطرابات النفسية وعلى رأسها الاكتئاب، عندما يقترن بضغوط الحياة غير الاعتيادية والتي لا يقوى الطفل على تجنبها او تخطيها بسهولة. ولعل خطر الزلزال يعد أرضية خصبة لعوامل اجتماعية ونفسية تهيئ هؤلاء الصغار كما الكبار للإصابة بالاكتئاب.
وبغض النظر عن المؤشرات البيولوجية (الهرمونية، الوراثيه..) التي تعتبر استعدادات وراثية للاكتئاب، فإن التأثير النفسي الاجتماعي قادر على خلق حالات مضطربة تستدعي جهودا مكثفة لإعادة التوازن الطبيعي. إذ يمكن أن يتعرض الطفل لتفاعلات توصف بالاكتئابية من خلال بيئة اجتماعية منعزلة أو طبعها شعور بالحزن وعدم الأمان جراء متغيرات اجتماعية أو طبيعية. ومن المحتمل، نتيجة لذلك، أن يصبح الأطفال أنفسهم ميالين لأن يكونون حالات مكتئبة ويعيشون صعوبات في التنظيم الملائم لمشاعرهم وردود فعلهم.
لقد بينت دراسة أجراها " بيريني " وزملاؤهأن هناك ارتباطا بين الاكتئاب وعدد الأحداث السلبية للحياة، ويزيد تأثير هذه الأحداث عندما يوضع إدراك الفرد لهذه الأحداث في الاعتبار. أي أن الأطفال والمراهقين الذين يتمتعون بقدر من الإدراك يمكنهم من الوعي بما يدور حولهم، يكونون أكثر عرضة للإصابة بالاكتئاب جراء ما عاشوه من ضغوض فرضتها متغيرات طبيعية؛ حيث إن هذه المتغيرات والوضع الجديد غير المتزن يمثل خطر ينقل عبر آليات ووسائط من قبيل الانفعالات السلبية أو غير التكيفية أو التعرض لبيئة ضاغطة، ليلتقي بجوانب الضعف لدى الطفل مثل العجز في القدرات المعرفية أو الانفعالية أو السلوكية، ما ينتج عنه اكتئاب الأطفال أو المراهقين بالإضافة إلى اضطرابات أخرى.
تسهم احداث الحياه الضاغطة بصوره كبيرة في بروز اضطراب الاكتئاب لدى الاطفال والمراهقين، حيث كشفت بحوث ان 60 % الى 80 % من الراشدين المكتئبين مروا بخبره او اكثر من احداث الحياه الضاغطة (سيما الفقد)، في السنه التي سبقت بدايه اضطراب الاكتئاب الاساسي. مما يفيد بأن عددا من الاطفال الذين فقدوا امهاتهم وابائهم وذويهم ممن تربطهم بهم علاقات حميمية قويه كالاجداد وكبار السن، معرضون لخطر الاكتئاب نتيجه لانكسار علاقة الارتباط Attachment بينهم بشكل سريع وغير مفهوم.
ووفقا للدكتور أحمد محمد عبد الخالق فإن الشدائد والمحن في الطفولة لها علاقة قوية باكتئاب الرشد، مؤكدا أن الراشدين الذين تعرضوا لشده أو محنه Adversity خلال طفولتهم لديهم معدلات مرتفعة من الاضطراب النفسي أكثر من غيرهم. وحسب "دولجان Dolgan" فإن القاسم المشترك بين معظم عوامل الخطر التي قد تتسبب في الاكتئاب هو خبره الفقد وتتضمن أنواع الفقد كما يعرضها: الحرمان من الوالد والانفصال والطلاق وفقد الظروف السوية، وهي المظاهر التي تطبع خسائر الزلازل البشرية.
تفيد كل هذه المعطيات بأن هناك ضرورة ملحة لتعبئة كل الجهود على مستوى مختلف الطواقم الطب نفسية والمساعدين الاجتماعين والأطر التربوية لتطبيق برامج تربوية تخفف من هول وشدة الأزمة بمختلف المناطق التي تضررت جراء هذا الحدث الطبيعي المأساوي. هذا مع وجوب بدل جهد كبير لدعم الأسر والأسر الحاضنة المتضررة لتقوى على أداء وظيفتها التربوية وتضل مثلا قويا لأبنائها.
كما أن هناك ضرورة ملحة لتبني سياسية عمومية كفيلة بدعم المتضررين لإعادة بناء وتعمير المنطقة بشكل سريع يعطي شعورا بالأمان والاطمئنان.
بقلم: نعمان حمداوي
المراجع المعتمدة:
[1] Berney, T.P, Bhate, S.R, Kolvin, Famuyiwa, O.O, Barrett, M.L, Fundudis, Tyrer, S.P. (1991). The context of childhood depression: The Newcastle childhood depression project. British Journal of Psychiatry, 159, 28-35.
[2] Birmaher, B. Ryan, N.D, Williamson, D.E, Brent, D.A, Kaufman, Dahl, R.E. et al. (1996a). Childhood and adolescent depression: A review of the past 10 years. Part I. Journal of the American Academy of child and Adolescent Psychiatry, 35, 1427-1439.
[3] أحمد محمد عبد الخالق، اكتئاب الطفولة والمراهقة، مكتبة الأنجلو المصرية، 2016، ص. 112.
مبدع حقا
ردحذف